يزيد: من لا يحب ولا يسب!



منذ أن نزل الوحي والرسالة، جعل الدين الإسلامي هالة من القدسية المتدرجة حول أشخاص بأعينهم، إن جاوز معهم مسلم الحد الأدنى من الكياسة والأدب عدوه الناس فاسقًا. ففي الدرجة العليا كان الأنبياء من ثم الصديقين والشهداء. وكانت درجات المسلمين من بعد رسول الله هي الصحابة أولًا وهم المسملون الذين رأوا رسول الله بأعينهم وصاحبوه، ومن بعدهم التابعين وهم المسلمون الذي قد صحبوا الصحابة ولم يروا النبي أو أسلموا بعد وفاته وعاشوا في القرن الأول والثاني الهجري.
فحظى الصحابة والتابعون على توقير المسلمين وتبجيلهم، ولكن في التاريخ الإسلامي عدد ليس بقليل من الشخصيات التي اختلف عليها القول، فآثر بعض الناس بغضهم على حبهم، ومال البعض الآخر إلى تبجيلهم، ومال البعض الثالث إلى التجرد من مشاعر الحب والبغض. وبينما في رأيي أن "الحجاج بن يوسف الثقفي" يتربع منفردًا آنفًا على رأس هذه القائمة، إلا أنه يتبعه فيها بلا جدال يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
أمره مع الحسين
فقبل وفاة الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، ارتأى أن يضع بين أيدي المسلمين أسماء لخليفته في الإمارة، وكان من بينهم أسماء عقلاء من أبناء الصحابة الصالحين، كعبد الله بن الزبير وعبدالله بن عمر وعلى رأسهم الحسن بن علي، ولكنه ولما مات الحسن آثر أن تكون الخلافة لولده الذي نشأ في بيت الحكم فيعرف من أبهة الملوك ومساوئ السياسة.
فبايعه المسلمون إلا أبناء الصحابة السالف ذكرهم بالإضافة إلى الحسين بن علي، فقال عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق لما سمع بأمر البيعة: "أهرقلية؟،إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا من أهل بيته". فزارهم معاوية بن أبي سفيان وأنزلهم على البيعة، حتى قال أسير بن عمرو: "والله لئن تجتمع أمة محمد أحب إلى من أن تفترق". ولكن الحسين قد رفض البيعة. وربما نتذكر هنا قصيدة الكلمة للأديب المسرحي الكبير عبدالرحمن الشرقاوي في مسرحيته "الحسين ثائرًا".
فبدأت الفتنة.
رأى أهل الكوفة، أن الحسين أقدر من يزيد وأهل بالخلافة عنه، فراسلوه وكتبوا له، حتى وصل له منهم مائة وخمسين كتابًا، فأرسل إليهم ابن عمه "مسلم بن عقيل بن أبي طالب" رسولًا، يأتي له بخبر الناس هناك، وكتب لهم معه كتابًا مخبرًا أنه إن وصله من "مسلم" اجتماع الملأ من المسلمين هناك عليه، ليأتي إليهم قدمة وشيكة. فنزل "مسلم في دار "هانئ بن عروة".
وكان والي يزيد على الكوفة في ذلك الوقت "عبيدالله بن زياد"، فلما علم بأمر "مسلم بن عقيل" حاك الحيل حتى جلب "هانئ بن عروة" إلى دار الإمارة، فلما علم "مسلم" راح في أربعة آلاف نفر من أتباعه محاصرين دار الإمارة، فأخذ "عبيدالله بن زياد" وحاشيته يعملون على تخويف أتباع "مسلم" من ويلات الحرب وسوء العاقبة، فانفض الجمع عنه وأضحى وحيدًا. فلجأ إلى دار يحتمي بها، حتى سمع خبيب الخيل من خارجه فتقلد حسامه وواجههم حتى أثخنته الجراح، فأقبل إلى صديقين له فأرسل معهم إلى الحسين أن يعود ولا يقدم فإن أهل الكوفة قد خذلوه. فلما سمع الحسين بالأمر حزن وهم بالعودة إلى المدينة بل وتراجع عن مقصده وأراد الذهاب ليضع يده في يد "يزيد" فلا يتفرق به أمر الجماعة.
وكان لما سمع "عبيدالله بن زياد" بخروج الحسين إلى الكوفة أرسل له "عمر بن سعد بن أبي وقاص"، ليسايره إلى منأى في الصحراء لا ماء فيه ولا ظل، فوصل إلى كربلاء؛ فقال اللهم ارفع عنا الكرب والبلاء. وما لبث إلا وقد وصل "عمر بن سعد" كتابًا من "ابن زياد" يوصله إلى الحسين: إن يزيد بن معاوية كتب إليَّ أن لا تغمض جفنك من المنام، ولا تشبع بطنك من الطعام أو يرجع الحسين على حكمي، أو تقتله والسلام.
ومنذ أن كلف بهذا الأمر، كان عمر بن سعد في حيرة من أمره، فصار يدعو أن يكفيه الله شر اقتتال الحسين. فلما علم ابن زياد بأن الحسين حقر من كتابه، جهز الجيش لمحاربته، وأمر بالحل بين الحسين وأهله والماء فلا يذوق أحد منهم منه قطرة. حتى جاء يوم عاشوراء، فاقتتل الجيشان، وقتل الحسين بن علي بثلاثة وثلاثين طعنة في جسده، وهناك روايات تفيد بأنهم بعد قتله قاموا بنهب أرديته وعمامته، فأخذت السيدة "زينب بنت الحسين" تصيح: "يامحمداه.. هذا الحسين بالعراء مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء". وقد قتل في هذا المشهد ستة عشرًا من آل البيت قيل عنهم أن ما على وجه الأرض يومئذ لهم شبه.
موقف يزيد من مقتل الحسين
وهنا، فقد اختلفت الروايات في حقيقة معرفة "يزيد" بأمر قتل "الحسين" مسبقًا، وكذلك حقيقة ردة فعله بعد علمه بمقتله. فبعد مقتل الحسين تأتي روايات بأن "سنان بن أنس" أحد المشاركين في مقتل الحسين قد دخل إلى فسطاط "عمر بن سعد متغنيًا:
أوقر ركابي فضة وذهبًا
إني قتلت الملك المحجبا
قتلت خير الناس أمًا وأبًا.
فنهاه "عمر" وحذره أن يسمعه "ابن زياد" يقول قولته تلك. وقد قيل أنه أنشأها بين يدي "عبيد الله بن زياد" نفسه، وفي رواية أن "عبيدالله" قام بضرب عنق "سنان". وقيل أيضًا أنه أخذ ينكت بقضيب في فمه. وفي رواية أن ابن زياد هو من دخل بالرأس على يزيد متغنيًا. وقيل أنه قد أرسل بها إلى يزيد ففرح في أول الأمر، ولما وجد أنه قد ألب المسلمين عليه اعترف بندمه. وقيل أنه لما وصلت الرأس إلى يزيد أخذ ينكث بقضيب في فمها أو نكث بالقضيب على الرأس نفسها وهو يقول: نفلقن هامًا من رجال، أعزة علينا، وهم كانوا أعق وأظلما.
وقد اتجه البعض بأن الرأس لم تصل إلى "يزيد" أصلًا. وقيل أيضًا في تعامل يزيد مع مقتل "الحسين" بأنه أسرى بنسائه وآل بيته إلى دمشق فأكرم نزلهم حتى أعادهم إلى بلادهم. ويميل أغلب العلماء وعلى رأسهم "ابن تيمية" إلى رأي أن يزيد لم يفرح بمقتل الحسين ولم يصله رأسه وأنه قد أكرم منزلة أهل بيته، وقد نقلوا عن يزيد قوله لما علم بأمر "عبيدالله بن زياد": "لو كان بين ابن زياد وبين الحسين رحم ما فعل ذلك".
واقعة الحرة: استباحة المدينة
بعد ذلك، ولى يزيد "عثمان بن محمد بن أبي سفيان" المدينة المنورة، فبعث وفدًا إلى يزيد، ولما رجعوا من عنده أظهروا شتمه وقالوا: "قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعلب بالكلاب" ويضيف "المنذر بن الزبير بن العوام": "والله إنه ليشرب الخمر وإنه ليسكر حتى يدع الصلاة". وبايعوا بدلًا عن "عثمان" "عبدالله بن حنظلة" وأخرجوا "عثمان" من المدينة إلى الشام، وأعلنوا خلع يزيد وفض البيعة. وقد ذكر "ابن كثير" في "البداية والنهاية" أن "عبدالله بن عمر" قد أنكر عليهم خلع "يزيد" ومبايعة "ابن حنظلة"، وقد سئل "محمد بن الحنفية" وهو أخو "الحسين" من الأب، فجادلهم وأنكر عليهم فعلتهم ورد عن "يزيد" ما قيل عن فسقه وشربه للخمر.
فلما بلغ الخبر يزيد، بعث إلى "مسلم بن عقبة"، ويعد أحد القادة الدهاة القساة بالعصر الأموي، وقال له: ادع القوم ثلاثًا، فإن أجابوك، وإلا فقاتلهم ثلاثًا، فإذا ظهرت عليهم، فأبحها ثلاثًا بما فيها من مال وسلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عنهم. فأباحها "مسلم" كما أُمر بل وزاد فاستباح الدم والمال وأخذوا - في رواية- يقعون بالنساء، فذكر المدائني في كتابه "الحرة": "كان القتلى يوم الحرة سبع مائة من وجوه الناس من قريش والأنصار والمهاجرين، ووجوه الموالي وممن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشر آلاف"، فوصل بالمدائني أن أضاف: "ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد وقعة الحرة من غير زوج". وبعد أن ترك "ابن عقبة" المدينة رحل إلى مكة لقتال "ابن الزبير" ولكنه قد هلك في طريقه إليها، وكذلك حق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم: "من أراد بأهلها سوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء".
وعليه، فقد اختلف الكثير والكثير من العلماء والمؤرخين في أمر "يزيد بن معاوية" على مر التاريخ الإسلامي، فتجد جمهور العلماء يشهدون بفسقه، وهناك من يحبه وهناك من يسبه وهناك من أفتى بعدم جواز لعنه؛ فكتب "عبد المغيث الحنبلي" كتابًا يمدح فيه يزيد ويصد عنه ما قيل فيه، فرد عليه "أبو الفرج بن الجوزي" بكتاب سماه "الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد"، الذي ذكر فيه كل دليل يبيح سب يزيد وكرهه. وذكر الإمام "الذهبي" في "سير أعلام النبلاء" أن يزيد مقدوح في عدالته، وأنه ليس بأهل أن يروى عنه. ولكن اجتمع الجمهور ومنهم الإمام الغزالي وابن تيمية والذهبي علي قول وسط يرضي المشاعر الغاضبة وكذلك لا تحيد عن الشرع الإسلامي بأن يزيدًا لا يٌحب ولا يُسب.



تعليقات

المشاركات الشائعة