أنا لست حرة: هل يجب أن تُقيد الحرية؟




هل نحن بالفعل أحرار؟ أيام الثورة كنت صبيًا يافعًا تفتحت عيناي مع أول هتاف نادى بالحرية والعيش والعدالة والكرامة، كنت لا أفقه معاني الكلمات كلها، وبذلت جهدًا لا بأس به من وقتها إلى أن فهمت الأشياء ومغزاها أو بعض من هذا وشيء من ذاك، كلمات الحرية والعدالة، اليمين واليسار، العلمانية والليبرالية والتحفظ، كنت أراها جميعًا بعين سطحية لا تغوص في أغوار غاياتها، ولم أضع أي منها على مقياس أو "مسطرة" إيماني وقناعتي، أو ربما -وكما كانت الثورة السبب في كل شيء- ساعدت الثورة أيضًا في تشكيل هذا الإيمان وهذه القناعات. وبعد أن كنت أظن بأن يجب أن أنادي بالحرية المطلقة فيفعل كل شخص ما يريد في مجتمع حداثي يشغل كل فرد فيه باله بنفسه فقط، مع الوقت، ومع انفلات وثاق الأخلاق والمعايير التي يحددها لنا الغرب وننساق لها ونتعاطف معها بتبعية الذليل، ومع توغل لا مبادئ التحرر الجنسي و "سيحان" النوع الجندري، أصبحت أؤمن أن الحرية المطلقة قد تودي بالصنف البشري إلى هلكة لا مرد منها، فأصبحنا نواجه لا مبادئ تنخر في مبادئ المجتمعات كافة الشرقية منها والغربية، المتحررة والمحافظة.


قرأت منذ عدة أيام رواية "أنا حرة" لإحسان عبدالقدوس، التي يناقش فيها مبدأ التحرر والحرية من عين مرأة أول القرن العشرين، ناقش أمر تحرر المرأة بمنطق لم يستطع أن يخفي فيه ذكورية محافظة تناسب مفردات عصره ومسار الشخصية التي رسمها ورسم مسار الأحداث التي أثرت عليها بنفسه، مما لا يجعل منطقه في فهم الحرية منطقًا عامًا يمكن تطبيقه على النماذج المختلفة، بل هو مناسب على النموذج الذي طرحه في روايته.


كانت أمينة التي جسدت دورها في الفيلم "لبنى عبدالعزيز" تشق برأسها عادات المجتمع ومعاييره بروح غاضبة وإرادة عنيدة، تقوم بأفعال لا تؤمن بها حقًا إلا أنها تشق بها عصا العادات وتثير عليها اللعنات. واجه الكتاب المجتمع بعاداته الخاطئة والسلطة المجحفة للرجال على النساء المتمثلة في عمتها الخانعة لحكم الزوج المطلق الذي لا راد له، كأن من في البيت دونه أنعام لا خيار لها ولا قرار. تكلم أيضًا عن نظرة حاضر ذلك الزمان للفتاة التي جاوزت سن الثانوية العامة ولم يتم خطبتها لتخدم بيتها وزوجها، وناقشت الرواية هذا التوجه ومثلتها في رمزية دور “أحمد” الشاب المثقف المكافح الذي يستطيع بمعايير عصره أن “يفتح بيت”، وأظن أن كتابة هذه الشخصية هي المثلى، لأنه جعله رجل شرقي يرى العلاقة التكاملية بين الرجل والمرأة كزوجين كما يراها المجتمع وقتها، الرجل للعمل والمرأة للبيت، على الرجل جلب الرزق وعلى المرأة صون البيت، فيحفظ كل منهما ثغر من ثغور الأسرة، ولم يجعله شديد الانفتاح والتحرر فلم يوافق على أحمر شفاه حبيبته إلا على استحياء، وكذلك لبسها المكشوف الذي رفضه قطعًا بتبرير سليم أن من حقه أن يخبرها بما لا يحب وتخبره هي بما لا تحب، وفي النهاية أخرجه من قصة البطلة بأن جعله يرفض أن تكمل هي تعليمها أو تعمل بعد ذلك.

حتى ظهر (عباس) الذي قام بدوره شكري سرحان البطل الذي يبحث عن الحرية، وأصبح هو مفهوم العقل للنداء بالحرية، فما غرضها أو مغزاها؟ هل هي حرية والسلام؟ أم أنها على قوله “وسيلة لا غاية"، نستخدم الحرية في التعبير عن رأينا بقوة، نستخدمها في الاعتقاد بما نؤمن به، نستخدمها لنختار من يمثلنا ونحدد مصائرنا. وكانت تلك هي الحدود التي تكلمت في إطارها الرواية عن الحرية، مما أنبت في عقلي تساؤلًا، هل مع استخدام الحرية كوسيلة في تحقيق تلك الغايات كلها، هل يجب أن تظل حرية مطلقة، أم حرية يشوبها بعض القيد كدين أو تشريع أو قانون. 


فإيماني اليوم أن الحرية وإن اتسع مداها يجب أن يكون لها حد، ما دون ذلك، يتسع المجال إلى أصحاب الأغراض الدنيئة ليفعلوا ما يشائون، كالذين ينادون بفتح باب الحرية للأطفال ما دون السن القانوني لاختيار نوعهم الاجتماعي المغاير لأصلهم البيولوجي، وشرحًا للعقول الأكثر براءة؛ فهناك اتجاه غربي معلن للفصل بين النوع البيولوجي الذي ولد به الشخص كذكر أو أنثى والذي تحدده طبيعة جسم الشخص وحمضه النووي، وبين ماهية تعريف الشخص لنفسه، كيف يشعر من داخله وكيف يرى نفسه، هل يعرف نفسه أنه ذكر أم أنثى أم رجل كرسي. فوصل البعض من الدناءة إلى المناداة والسماح للأطفال الذين في طور التكوين والتعلم أن يختاروا إن كانوا يريدون إكمال حيواتهم التي لم تبدأ بعد بنوعهم الأصلي أم يريدون تغييره إلى نوع مغاير.


ومع تفشي مبدأ (الحب هو الحب) ستجد في مستقبل قريب من ينادي إلى حرية الحب التي قد تشمل الأطفال (بيدوفيليا) أو الحيوانات (البَهيمية)، فلم يعد يحكم الحرية منطق ولا أخلاق، ولكنها بحر واسع لا آخر له أو أول، حاكمه الوحيد هو "أنا حر".


وبنفس المنطق، تجد كثير من الغربيين ولا سيما في الولايات المتحدة كانوا يشتعلون غضبًا عندما يخبرهم صاحب المنشأة أو المحل أو السوق التجاري في أوج جائحة كورونا، أنهم لا يستطيعون التواجد بدون ارتداء كمامة، فترى الفرد منهم يرغي ويزبد صائحًا بأن هذا القانون الضروري يُعد تعديًا صارخًا على حريته، وأنه مواطن أمريكي له حقوق وحريات لا يمكن لأحد تحت أي ظرف أن يتعدى عليها.


وبذلك يكون السؤال هل يجب أن تكون الحرية مطلقة؟ أم يجب أن يكون لها ضوابط وأخلاقيات تحد من سطوتها وطغيانها؟ ومع ذلك، هل تكون الحرية حرية إذا تم تقييدها؟.

تعليقات

المشاركات الشائعة