أمي


٦-
لم يخدمني الوقت كثيرًا حتى أُهنئها بعيدها الخاص، الذي بحال من الأحوال تُحرم منه كل عام، إما لوجود محفل أكبر في مكان أهم، أو لتشَتُتنا نحن في البلاد وصعوبة تجمعنا كما هو الحال الآن.
أمي كأي أمٍ أخرى، تنعتها تلك الصفات التي إشتركت فيها الأمومة جمعاء، التفاني في الحب و التضحية غير المنتظرة إعترافًا أو مقابل، عينها الحانية العاطفة، وقلبها المشفق المضطرب.
جرت العادة دائمًا، إما أن أستخلص من وقتي بعض اللحظات حتى أُهنيها بأن تظل طيبة دائمًا، إما أن أكون خارجًا بعيدًا عن المنزل وعنها وعن قلبها وما لها إلا بضعة لحظات عبر الهاتف أصل بها لنفس النهاية أن تكون طيبة دائمًا. والحق أنها طيبة دومًا ، بتهنئتي أو بغيرها، بدعائي أو بدونه. وجائزًا أنه أنا من يحتاج لمثل هذا الدعاء.
فأنا لن أتحدث كثيرًا عن ما ضحت به وماعانته وما قدمته لي خلال العشرين سنة السالفة، فهذا مهينٌ حقًَا لقدرها، أن يذكر طائش مثلي -لم يتعلم الكلام والحديث و التعديد والوصف إلا على يديها- محاسنها وتضحايتها. ولكن سأذكر كم التخاذل الذي قدمته لها في المقابل، كم الألم الذي سببته لها في أيام كانت تحتاج فيها كلمة عاطفة تجبر كسر قلبها وتشدد من عزيمتها وقوتها التي ترك عليهما الزمن أثره. 
سأذكر قلبها المضطرب المعلق الهائم على وجهه لم يكتب له الله بعد السكينة و الثبات، عقلها المسافر في أنحاء الأرض تبحث عنّا بينما نحن نبحث عن أي شئ إلا إطمئنانها، كالطير هي لها في كل عشٍ فرخ ، تطوف عليه واحدًا تلو الآخر تطعمه وتسقيه حتى إذا غلب الليل فتجد أنه لم يكن هناك من يطعمها ويسقيها.
لو كان لي "أنا" هذا القلب المهاجر المشرد، وكان لي في وطني -مثلها- مئة غربة وغربة، أبذل ما تبذله وأعطي ماتعطيه بلا كلمة شكر عابرة على هامش مائدة مدججة بالخير و الطعام، لكنت مِت من الحسرة و الألم.
أنا محظوظ جدًا لأنها أمي ، وهي مظلومة جدًا لأن لها إبن مثلي ..
أنا لست سيئًا لهذا الحد، ولكن جمالي أمامها قبيح، وقلبي بجوارها جادب.
أتمنى حقًا أن يهديني الله لها، أن أكون لها طائعًا لينًا سهلًا. وأن يرزقها الله الخير فإني أراه كل ليلة يجري بين يديها لا ينضب، وأن تكون دائمًا طيبة وبخير وهي دومًا كذلك.

تعليقات

المشاركات الشائعة