سيدة البجعة الصفراء


عند حلول الرابعة والنصف، نقر أحدهم الباب فأذن له الطبيب بالدخول ..ففعل وأخبره أن هنالك ساعِ شركة شحن بالخارج ولديه طرد موجه للطبيب باسمه. تفاجئ الطبيب الشاب، فهو لم يطلب أي منتجات من الإنترنت ولم يتفق مع أحد ليرسل له أي شئ، فوجود طرد موجه اليه لمدعاة للريبة. دعاه الطبيب لديه في حجرته فاستلم منه الطرد وكانت العيادة فارغة من الزوار والمرضى وغالبًا ماتكون، إلا أن الطبيب كان يريد أن يكون دائم التواجد بها في أكثر أوقاته.
فض الطبيب غلافًا بلاستيكيًا دُوِّن عليه اسمه، ثم فض من بعده غلافًا ورقيًا أصفر كذاك الذي كان يغلف الطرود الورقية والملفات الحربية أيام الخمسينيات، لون الغلاف فقط زاد من حدة اضطرابه وتسارع أنفاسه، حتى وجد بداخله كتابًا صغيرًا جديدًا غلافه الخارجي أزرق لا عنوان عليه ولا آثار استهلاك، فهم بفتحه ليقرأ ما كتب في أسفل أول صفحة: "١٣ ب. شارع البجعة الصفراء، مقتل امرأة البجعة الصفراء.. ماذا حدث ولما؟"، قاطعه صوت موظفة الاستقبال مخبرةً أن هنالك مريضة بالخارج.. مريضة! هذا شئ غريب، دعاها للدخول وحياها، ثم شرعت في شكواها.

***

"إذن وما الذي ترينه بالضبط؟"، صمت الطبيب برهة ثم أطرق في وجهها اللامع، كانت صغيرة الحجم والسن، مكتنزة القائم لها جوانب ممتلئة، بشرتها بيضاء قد خلجهتا زُرقة ليست فيها، عيناها بنية غارقة في محيط أحمر، تتوج محجر عينيها حلقات سوداء مبرزةً سمات الأرق والسهد، تحتوى ارتجاف يمناها بيسراها، شعرها منسدل في جديلة على كتفها الأيسر بجانب رقبتها التي تحتوى على بقع إثر عملية إزالة جلد زائد أو على الأرجح وشم أو ماشابه، تنجلي أمامه علامات الرهبة والوجل تنتفض في عروق وجهها الشاحب، شعر الطبيب أن الصمت قد تجاوز الوقت المسموح له به، فأردف مرة أخرى بهدوء: مايا هل تسمعينني؟
رفعت عينيها له ببطئ، تشي له نظرتها أنها قد سمعته بالفعل، إلا أنها ليست لديها إجابة وافية: نعم أسمعك يادكتور. لا أعلم.
فاستوعب الطبيب ضياعها، وقد كان معجبًا بالفعل بطريقة نطقها لكلمة دكتور، ولكنه أزاح من رأسه أفكاره وتابع: مثلًا هل ترين صور لأشخاص كانوا موجودين بالفعل وقد رحلوا لأي سبيل كان، ترين حيوانات، وجوه، أشباح؟ ما الذي يتصور لك بالضبط؟
نظرت له مايا وقد شكت في صحة قرار مجيئها إلى طبيب نفسي في بادئ الأمر، كان الطبيب أحمد سليم، أحد الأطباء النفسيين النادرين في هذه المدينة، مدينة صغيرة يعرف بعضها بعضًا، يخاف كل منهم من الآخر، ويخافون كلهم من الأطباء النفسيين. "هل جننتِ؟"، هكذا عبر لها أحدهم وقد اختلج الوجل وجهه وانتصب شعره فزعًا من اعتراف الفتاة، تداركت مايا الموقف وأحالت الحديث إلى المزاح.
التفتت إلى الطبيب مرة أخرى: أظن أن عليّ الرحيل. قالتها وهي تلتقط حقيبتها هامة بالقيام. تابعها الطبيب وهو يقول: آنسة مايا لن يقوَ أي أحد على التوصل لعلاج تام لما يحدث لكِ إلا إذا شرعتي بالحديث. حتى إن لم يكن بغرض العلاج، فبغرض الإفصاح.
نظرت له وعلامات الخوف لم تفارق عينيها: أعلم يا دكتور، أنا فقط مرهقة، سوف أهاتف الاستقبال لاحقًا لتحديد موعد آخر. واعتذرت عن إهدار وقته الثمين ورحلت، لم تكن العيادة مكتظة بطالبي الشفاء من المرضى وقت قدومها ولكنها أعتذرت على كل حال.
راقبها الطبيب وهي تخرج بنفسها من حجرته، وهو يفكر في حالتها التي لم تتبين له بعد، فهو طبيب نفسي في مدينة صغيرة، أهلها ليسوا من روادي الأطباء النفسيين وربما يفضلون الدجل أو الشيوخ على الطب النفسي، فكانت حالتها هي الأولى له هذا اليوم. عندما حان وقت كشفها، دخلت عليه وقد راقب الطبيب وضع جلستها وإحكام قبضتها مع ارتجافها، سألها عن حالتها، فقالت له: "أنا أرى أشياء، أشعر بها تحدثني، تطيل النظر إلي وتحصر انتباهي لها". حاول أن يقطاعها ولكنها تابعت: "يأتي كل يوم بعد الساعة السادسة، تنحسر الأصوات من حولي، أصوات الناس.. الزحام .. التلفاز ويبقى صوت واحد فقط، تتشكل أمامي كاملة أيًا كان مكاني، إن كنت في دورة المياة، الشارع أو السيارة". صمتت وإنسحبت عيناها وكأنها تذكرت شيئًا ارتجفت له شفتها وشرعت في الارتعاد، لم تقوَ على المتابعة فجمعت حاجياتها ورحلت.

تابعها الطبيب وهو حائر، أدهشه وجلها و شعر بأن عليه فعل شئ دون أن يعرف ما هو، أفاق من إطراقه مستدركًا وجود الكتاب الذي ما زال بين يديه، فتح الكتاب مرة أخرى من ثم أغلقه وأعاده مكانه وهم لغسل وجهه والعودة مرة أخرى لمقعده، جال في خاطره أنهم يقولون دائمًا أن الأطباء النفسيين هم الأكثر مرضًا، رد متبرمًا: ربما مما يلاقوه، عاد مرة أخرى إلى مكتبه طالبًا من الاستقبال فنجالًا من القهوة. فتح كتابه، مازال لا يدرك ما هذا الكتاب ومن مرسله، رحل إلى آخر صفحات الكتاب فوجدها فارغة، أعاد طي الصفحات فوجد أن محتوى الكتاب توقف في منتصفه أما نصفه الآخير فارغ لا شئ فيه. أعاد أحمد البحث داخل الظرف الورقي ربما يجد به ورقة أو دليل لمرسل هذا الطرد ولكن لا أثر. قرر بعد ذلك شغل نفسه حتى يأتي مريضًا آخر -وكان هذا مستبعدًا- إلى العيادة، فشرع في قراءة الكتاب.

"١٣ ب. شارع البجعة الصفراء، مقتل امرأة البجعة الصفراء.. ماذا حدث ولما؟" طوى الصفحة: "سيدة عجوز بيضاء سمينة مترهلة، لها وجه مستدير أبيض كالقمر بمنتصف الشهر، عيناها ضيقتان و شعرها أشقر قصير منتصب كأن مسته الكهرباء، كانت متزوجة من رجل يصغرها بخمسة عشر سنة، أصلع الرأس حليق الذقن اللهم إلا من شارب ولحية رفيعة تحيط بفمه، ذاعت شهرة الزوجين في الآونة الأخيرة بين أهل الحي -وخاصةً الفضوليين- بإنحرافهم الجنسي فيما بينهما، فكانت أسرار غرفتهم لسبب من الأسباب يتطلع عليها كل رجل وامرأة في شارع البجعة الصفراء، انتشرت حولهما الشبهات ولكن لم يعلق أحدًا منهما على التهم المتناثرة وربما لم يعلما بها قط. لا أحد يعلم.
الليلة الماضية قد أخرجت السماء ما في جوفها من أمطار، تعالت صرخة وحيدة من نافذة منزل السيدة، لم يسمع تلك الصرخة أحدٌ سواي، رأيت السيدة البدينة تهوى على ظهرها، لم أدرك أن مايحدث غير عاديًا بعد أن سمعت تلك الصرخة، لم تكن صرخة المتشدقين بالجماع ولكنها كانت صرخة غدر وألم، ولكني علي أى حال لم أجد معها أحدًا سواها في الغرفة، ولم أرها ثانية من بعد هذا ولا زوجها حتى. أثارت الشكوك قلبي، حاولت قبل ذلك أن أصعد إلى شقتهما لأعرف ماذا حل بهما، ولكني طالما ترددت، لعدة أسباب أولها أنه لا يعرف ماذا يفعل إن رد عليه أحدهما، وآخرها أنه يخاف من تمثال البجعة العملاق أمام مدخل بوابتهما الذي يتداخل وجوده مع إضاءة العمارة الحمراء فيعطيه ريبة وغموضًا لا أطيقهما نفسي، بعد ثلاثة أيام رأيت الشرطة تخرج من منزلهما ورجلين يحملان كيسًا أسودًا ممتلئًا عن آخره، أيقنت أنها قد قتلت يومها."

أغلق أحمد الكتاب وهو حائر لا يدري أهذه رواية أم ملف اعتراف، فقد كتبت بخط اليد، فربما كانت مسودة مبدأية لرواية أدبية، ولكنها ليست مكتملة، جائته فكرة أن يرى الصفحة الأخيرة، ولكن نزعة بداخله أخبرته بأن يتمهل الأحداث، أزاح الخاطر من باله وذهب إلى آخر صفحة بمنتصف الكتاب حيث تتنتهي الكتابة: "اليوم رأيت تلك الفتاة مرة أخرى تصعد إلى شقة الزوجين، غبت لثوانٍ ثم عدت لأنظر عليها فوجدتها تقف من النافذة.. تنظر لي." وانتهت الكتابة إلى هنا.. 

***

مرت ثلاثة أيام قبل أن تتصل مايا مرة أخرى لتحدد موعدًا جديدًا، وكان لا أحد من الاستقبال موجودًا فرد عليها الطبيب بنفسه، أراده أن يكون في أقرب وقت ممكن، فأخبرها أن اليوم سيكون مناسبًا، فردت عليه مباغتة: "هل من الممكن أن نجتمع الآن؟"، ارتبك أحمد في البداية قبل أن يخبرها أنه لا مانع لديه على الإطلاق.
رأى الطبيب وجهها وقد كان مكفهرًا متجهمًا يملؤه العبوس والرعب، بادرها: كيف حالك يا مايا؟
قالت وشفتها السفلية ترتجف فزعًا: أنا خائفة، إنهم يلاحقونني؟
فقال: من هم؟، فردت عليه مرتبكة: الوجوه.. تكاثرت.. وجه غاضب كبير.. محاولة قتل.. أحدهم.. كانت خائفة ولكنه باغتها.. لا أعرف! أظن أنه هو من... لا أدري ماذا يحدث لي!
حاول الطبيب تهدئتها وأعد لها مشروبًا باردًا ليخفف من هلعها، ثم بادر: يا مايا، أنا أعرف أنه وقت عصيب لك وأنك تمرين بحالة عسرة، أمنحيني فرصة مساعدتك، فقط امتلكي شجاعتك وقوتك وأخبريني، ماذا ترين؟ حاولي الوصف.
مسحت مايا دمعة قد هجرت سُكن عينيها، ثم حاولت التماسك أو الادعاء، كان التفكير صعبًا خاصة وإن الساعة الآن تعدت السادسة وكانت فقرة فزعها قد بدأت بالفعل، ثم قالت: أنا أعتذر لك ولكني خائفة حقًا، أمس حدث شئ غريب، جديد بالفعل عن كل ماحدث لي من قبل، عادةً منذ أن بدأت رؤية تلك الأشياء، كنت أرى وجه وأسمع صوت، لا تتحرك فقط تنظر لي وتتكلم، لكن الأمس بدأت أن أرى مشهدًا كاملًا يحدث أمام عيني ولا أستطيع فعل شيئًا حياله.
فرد قائلًا: هل تستطيعين أن تصفي لي هذا المشهد؟، زادت مايا إحكام يديها حتي قد ظهرت بشرة يديها البيضاء محمرة ثم أردفت: لا أعلم بالضبط، كنت جالسة في غرفتي، رباه كم أصبحت أرتعب من مجرد الوجود بها، وإذ بي أرى وجهها قادمًا مرة أخرى، كانت تحدق لي عيناها، بنية تشتعل في جحيم غائر، لكنها لم تأت لي وحدها، ولكن كان معها امرأة أخرى، لم أستطع في البداية تبين ملامحها.. لم أعرف ماذا أفعل، ظللت أراقبهم في وجل وترصد، حتى دوت صرختي مرددة بين حوائط الغرفة إلى البيت كله، بعدما دست تلك الفتاة مُديتها الصدئة في بطن المرأة، فهوت في إثرها على الأرض، فتُح باب غرفتي فزعة فاختفت الفتاة القاتلة واختفت الضحية وانسحب الدم المسكوب إلى غير مكان، فنظرت إلى الفضاء مشدوهة أبكي حتى رحت في النوم.
أصاخ السمع لها متمهلًا وحالما انتهت قال لها بتؤدة وحنو: هل كان وجه الفتاة الأخرى مألوفًا لكِ؟ القاتلة؟. صمتت مايا برهة وقد ثبتت مقلتيها عليه: نعم كانت أنا.

***

يحاول أحمد إدراك مايحدث له هذه الآونة، هذا الكتاب الغامض و مايا مريضته الوحيدة تقريبًا الذي لا يملك بعد تشخيصًا لمرضها، التهيؤات والهلوسة عرض لكثير من الأمراض النفسية والعصبية، وقد تنتج أيضًا عن إدمان بعض المواد المخدرة والتوقف المفاجئ عن الكحول، ولكن مايا بعينيها البريئتين وفمها المنمنم لا يظنها قد عاقرت الكؤوس والدخان من قبل، لا.. هي بالطبع تواجه مرضًا نفسيًا عميقًا.. ربما كان مرض "الذهان"، يجب عليه تبادل الحديث معها أكثر من ذلك، عليه سؤالها واستجواب حالتها، كلما همت للرحيل ظن يقينًا أنها ستكون آخر مرة قد يراها فيها، نازع في قلبه يرغمه على التعلق بها، ربما لأنها جميلة بمقاييسه الشخصية أو لأنها مريضته الأولى من هذا النوع والوحيدة حاليًا.
نهض يفكر أمام  نافذته المطلة على شارع ضيق فرعي، تحته متجر بقالة و دكان ترزي حريمي، و عمود إنارة فُرِشت حوله مجموعة مختلفة من الكتب المقلدة والمسروقة.. تذكر الكتاب، حاول أن يبعد عن باله كل ما له علاقة بمحتواه ويفكر فقط فيمن أرسله، كيف ولما وصل إليه؟، ولما إلى هنا وليس إلى بيته؟، فقد كتب على غلاف الطرد اسمه فهو الشخص المرجو المرسل إليه ليس أحدًا آخرًا، حاول البحث في خريطة هاتفه عن العنوان المذكور في أول الكتاب ولكنه لم يجد له أثرًا، ترك هاتفه وعاد للكتاب مرة أخرى، وبدأ يقرأ من حيث توقف:
"كان لا أحد من سكان الشارع كله لديه علاقة وطيدة بهذين الزوجين، فالسيدة لم تكن تُرى في الشارع باستمرار وكذلك زوجها، لم يكن أحد يزورهم بشكل متقطع ولكن كانت الشقة معروفة بين الجيران بالشقة الحمراء، فإذا نظرت إلى نافذتهم في أي من الأوقات كانت تظهر حمراء كالجحيم ترتفع منها أصوات ماجنة وألفاظ فجة، كانت قلعتهم وتحصنوا بها، لم تطول أنيابهما أحدًا حتى لا يطولهما نابه، كانوا رغم انقطاعهم في الخلاعة لا يصيبون أحدًا بها، وبالذات هي، رأيتها ثلاث مرات فقط ولكن في كل مرة تراني فيها تبتسم لي ابتسامة لطيفة تضيق معها عيناها، أحببتها في الحقيقة، كانت امرأة ودودة. في آخر مرة رأيتها قبل مقتلها بأسبوع تقريبًا، وجدت كدمات متفرقة في رسغيها ومعصميها، لاحظتهما وتفحصت وجهها فلاحظت كدمة متخفية في صدرها من خلف كنزتها، راح بالي وقتها إلى عاداتها غريبة الأطوار، ولكن الآن وقد قتلت فأنا على تمام اليقين أنها تعرضت لتعنيف من قبل، ممن؟ لا أعلم ..حتى الآن"

شئ في نفس أحمد جعله يرسل في طلب مايا، كان يستوعب حالتها، ولكن شيئًا فيه نفسه ظلت تشعره بأن صلة ما قد تجمع بين مايا و قصة هذا الكتاب، لا يدري كيف أو لما، ولكنه مجرد شعور.
"آلو، مايا؟.. أنا الطبيب أحمد أعذريني على مفاجئتك بتلك المكالمة الغير معهودة ولكنني فقط أريد أن أطمئن على صحتك، هل أنت على مايرام؟"، ردت مايا مرتبكة أنها ليست كذلك، فطلب منها أحمد تحديد موعد لكشف قادم، يتوق لمكاشفة حقائق حالتها، يشعر بأن شيئًا يفوته، لطالما كره ذلك الشعور. أكد معها موعدًا وظل يقرأ في الكتاب حتى قدومها.

"اليوم رأيتهما مرةً أخرى، بعد ثلاثة أسابيع منذ آخر مرة، هما -أي الزوجين- يقطنان في بناية يتوسط بوابتها تمثال ضخم لبجعة صفراء، في الطابق قبل الأخير رأيتهما، كانت نافذتهما بزجاجها الشفاف كاشفة لما يحدث في البيت كله بلا ساتر ولا خافِ، كانت شقتهم تدعو للريبة، ليس بيتًا لشريكين متزوجين قدر ما كان أقرب إلى ماخور، تختلط فيه الإضاءة ألوانًا، الأصفر والأحمر والبنفسجي، كان للناظر أقرب إلى ملهى ليلي، يعطي الطابع الصحيح عما يحدث خلف تلك الجدران، كل تلك الأفعال المنحرفة للزوجين، كانا يفعلانها دائمًا بمفردهما، كانت أفعالًا شاذة ولكن كانت في إطار علاقتهما الزوجية، ولكن اليوم كان معهما ثالث.. فتاة أخرى، كان باديًا أن السيدة الشقراء البدينة لم تستسغ هذه المشاركة، وكان هذا جلي في انعدام صوتها الذي طالما كان صاخبًا شرهًا مكللًا بالنشوة والمجون، كانت الفتاة الأخرى تطغى بوجودها وصغر سنها على جسد الرجل الأصلع، لم تكن السيدة البدينة راضية أبدًا عما يحدث، ولكنها استمرت معهما.
تكرر حضور هذه الفتاة عدة مرات و كل مرة تظهر السيدة البدينة غير راضية أكثر من ذي قبل، تبعت هذه المرات مشجارات عديدة بين الزوجين. لا تندهش فأنا أعرف الكثير.. لم استمتع أبدًا في الواقع بمشاهدة نشاطهما الجنسي المنحرف ولكن الحالة أثارت فضولي، زوجان منحرفان، لا ترى هذا كل يوم."

***

تدخل ممرضة الاستقبال إلى الطبيب مخبرة حضور مايا، تجلس.. تتنهد.. تنظر له في عينيه ليست مرتبكة بقدر كل مرة، اعتادت حالتها او اعتادت وجودها هنا، سألها عن حالها، مالت بوجهها جنبًا وقالت لا تعلم، فقال لها: مايا هل لي أن أسألك بضعة أسئلة؟. نظرت له قائلة: بكل تأكيد.
فقال: هل سبق لكِ أن عاقرتي أي نوع من أنواع المواد المخدرة أو الكحوليات؟
فأماءت نافية، فسألها: هل تشكين من أى مرض عضوي؟ هل تتناولي عقاقير دواء بشكل مستمر؟
فنفت ماسبق، فصمت برهة ثم سألها: أين تسكنين يا مايا؟
فقالت له بالحي الشرقي، فسألها عدة أسئلة كان مفادها أنها خطبت مرة واحدة منذ سنتين ولكنه كان عنيفًا على حد قولها.. فانفضت علاقتهما، وعندما سألها هل تمر بأي علاقة عاطفية حاليًا صمتت لعدة ثوان وأخذت تقلب عينيها في أرجاء الغرفة حتى انتهت بالإجابة بالنفي، فقال لها: مايا هل تتذكرين آخر مرة وصفتِ لي مشهد قتل لسيدة عجوز، صحيح؟، فردت مترددة: نعم صحيح، هل تستطيعين وصف شكل هذه السيدة لي.. فارتبكت قليلًا ثم قالت: في بادئ الأمر كنت لا أرى ملامحها، ولكن بعد ذلك بدت واضحة.. كانت عجوزًا سمنية، عيناها ضيقتان بشكل ملفت، شديدة البياض بشعر أصفر حليق كالرجال، لها أنف صغيرة منمنمة شغلته بقرط فضي صغير، لم تكن خائفة أو مرتاعة، بل كانت كأنها تنتظر هذا القتل، كأنها تستحقه وتجنيه، كأنها حاربت من أجله وهاهي تقتنصه.. صمتت برهة ثم تابعت على استحياء: كانت عارية بالمناسبة.
سمعها أحمد وسرت في جسده قشعريرة وكأنه وقع في وكر من الحيَّات قامت كل منها بلدغه على حدى، كان يشعر مسبقًا أن ثمة صلة هناك وظل يطرد الفكرة من مخيلته ولكنها حقيقة، الآن أيقن أن هنالك ثمة صلة أخرى بين مايا ومن أرسل له الكتاب، هي لديها أعراض الهلوسة ترى وجوه ومشاهد لم تحدث؟، هل هي من أرسل له الكتاب من غير وعي، لا يدري.
كانت مايا جالسة ولكن العالم كله لأحمد قد رحل  وتركه في غياهب الحيرة، محاط بأفكاره وظنونه حتى كادت تخنقه، كاتب الكتاب يتحدث دائمًا أنه يرى المشهد داخل منزل السيدة العجوز من مكانه، فلربما كان جارًا لها في النافذة المقابلة.
 يريد أن يعرف كيف بدأ الموضوع، على مايا مساعدته.

أخرج الطبيب الكتاب من حافظة مكتبه وأعطاه ولمايا، أخذته مايا بتردد وفتحته وبدأت تقرأ.. بعد عدة دقائق أوقفها الطبيب حيث راقب قرائتها فلم يدعها تتجاوز ما قرأه إلى الآن فتنهي الكتاب، وأخذه منها مرة أخرى، ثم أردف: إذن يا مايا، هل مايصف الكتاب من قصة شبيه لما ترينه من مشهد؟، كانت عيناها بدأت تتقلب في محجريها حيرة، وارتجافة يدها باتت جلية للناظر، أماءت بالإيجاب وهي تحاول جمع أشيائها لترحل، أوقفها الطبيب هذه المرة وطلب منها أن تعاونه في مساعدتها.

-مايا اجلسي من فضلك، الهروب الآن ليس حلًا، لم يتلق منها ردًا ولكنه شعر باستجابتها، ثم قال: يا مايا هذا الكتاب قد وصل لي يوم جئتني أول مرة، وكنت لا أفهم إن كانت حقيقة أو مجرد قصة خيالية، ولكن عندما أخبرتني الآن بوصف السيدة العجوز، أيقنت أن هنالك شئ مدبر. سألته وهي تخفي رجفة يديها: كيف وصلك هذا الكتاب؟، رد قائلًا: جائني عبر شركة شحن بدون تفاصيل عن هوية المرسل.. ثم تابع: مايا أريدك الآن أن تهدئي من روعك حتى نصل إلى حل، الآن يا مايا هل تعرفين السيدة المذكورة في هذا الكتاب بشكل شخصي؟ هل رأيتينها من ذي قبل؟، هل لك صلة بها؟.. صمتت مايا ولم ترد وكأنها تبحث عن الإجابة في عقلها، ثم ردت بالنفي. كاد أن يهم بسؤالها ثانيةً ولكنها اعتذرت عن التكملة بادعاء أنها ليست على مايرام، يتضح أن الوضع يسوء وأنها لا تصل إلى علاج، أوقفها قائلًا: مايا فقط قبل رحيلك أين أخبرتني بأنك تسكنين؟، فردت و الخوف قد طبع سماته على قسماتها: بالحي الشرقي.

بعد رحيلها التقط أحمد الكتاب وقد أصبحت هذه الحالة همه الشاغل، فتابع القراءة من حيث وقف:
"اليوم قد جائت الفتاة وحدها في غير وقت أو موعد، كانوا دائمًا مايجتمعون في الليل، حيث يلتفون حول مضجع إبليس في درب من دروب الجحيم، تشتعل النيران في أجسادهم حارقة حتى تخلص أرواحهم في سراميد الإشباع الهادئة، لم يكن الرجل الأصلع حاضرًا هذه الجلسة، زمجرت السيدة البدينة عندما وجدتها على بابها، ظهرت الفتاة هادئة شاحبة، تكلمت مع السيدة ببرود عن شئ ما، وأطالت في الحديث، هدأت ملامح السيدة حتى احتالت إلى الشفقة المشوبة بالحزن، تملك الأسى من السيدة فخمل جسدها البدين وأناخت بجسدها للوراء فكادت تسقط فأسندت ظهرها على الجدار، ظلت الفتاة تتكلم ولم تبد أى تعاطف مع السيدة التي بدأت في الانغمار في البكاء، دقيقتان ثم تركتها الفتاة وولت دبرها تاركة السيدة في سكرات هلعها.. لم أفهم ماذا حدث، وما الذي دفع السيدة إلى الانهيار بهذا الشكل؟، ماذا قالت لها الفتاة؟ هذا لا أعلمه.
تابعت الفتاة وهي تهبط من البناية، ولاحظتها تمسح دمعة خانت عينيها وهربت على وجنتها التي غشتها الحمرة والاشتعال، كان الحدث غريبًا تطغى عليه بعض المشاعر الحقيقية البعيدة عن أفعالهم الحيوانية المعتادة، الكثير حدث اليوم مما يدعو للريبة، الفتاة تأتي في وقت مبكر، بدون أن يكون شريكهما الثالث معهما، وتجعل السيدة العجوز تجهش بالبكاء، وترحل. هذا غريب."
أمعن أحمد البحث هذه المرة عن عنوان منزل السيدة البدينة، شارع البجعة الصفراء، اسم غريب على أن يكون في مثل هذه المدينة، فالشوارع هنا تسمى عادة باسماء مدن أخرى أو تواريخ سياسية وحربية، لا البجعة الصفراء. ألم يكن من الأسهل أن يدعى بشارع ٢٣ يوليو أو النصر، جال هذا في خاطره، ظل يبحث ويغير مدخلات البحث، حتى كتب في النهاية البجعة الصفراء وأضاف إليها اسم مدينته، ظهرت له عدة نتائج منها "باليه بحيرة البجع" وصفحة تسمى البجعة على موسوعة ويكيبيديا، ولكن قبل أن يغير مدخلات البحث لمرة أخرى ظهر أمامه رابط صفحة تدعى مطعم "ييلو سوان" في الحي الشرقي من المدينة، كان العنوان يقول شارع البجعة الصفراء ولم يقل أنه مطعمًا، بحث أحمد في الصفحة على عنوان هذا المطعم، حتى وجده بشارع يدعى فعلًا بشارع النصر، ١١ ب شارع النصر، ولكنه لم يكن قد سمع به أو زاره من قبل، ترك أحمد الكتاب على مكتبه وهبط مسرعًا من عيادته و ركب سيارة أجرة وأخبر السائق العنوان الأصلي، فصمت السائق لثوان ثم قال له: أتقصد شارع البجعة!، فاندهش أحمد أنه الوحيد الذي لم يكن على دراية بموضوع البجعة هذا، فهز أحمد رأسه  بسرعة موافقًا، وقد سرى الأدرينالين في جسده كالسيل، سأله أحمد: لماذا يطلقون على هذا الشارع اسم البجعة الصفراء؟، فرد عليه السائق: ياسيدي هنالك مطعم جديد قد افتتح منذ عدة شهور له اسم بالانجليزية يعني بالعربية البجعة الصفراء، فأخذ الناس يسخرون من الاسم فتحول اسم المطعم إلى ترجمته بالعربية، وأصبح الناس يطلقون على الشارع نفس الاسم نسبة لهذا المطعم. لكن أتدري لولا هذه السخرية لما كان هذا المطعم قد باع بقرش واحد، فطعامه أسوء من أقدام الخنازير لو أُكلت، لكن السخرية شهرته. ربك يوزع الأرزاق بمقدار. ونعم بالله.
أهمل أحمد حديث السائق الذي لم ينقطع عن الحديث حتى وصلا، كان الليل قد جن، وتكالبت الغيوم على القمر فافترسته، هبط أحمد من السيارة أمام المطعم، ظل يحملق فيه وفي الزبائن بالداخل الذين لم يتعدوا الثلاثة زبائن، فتهكم على حديث السائق ثم أخذ يلتفت حوله، كانت الشوارع في الحي الشرقي دائمًا ماتكون هادئة، الشوارع واسعة شيئًا ما، ذات فوانيس إنارة قديمة مما يكسبها جمالًا عتيقًا، أيقن أحمد أن عليه أن يخرج من قوقعته لبعض الوقت، فهو لم ير هذا الشارع في حياته من قبل، التفت أحمد للوحة معدنية زرقاء بجانب المطعم مكتوب عليها رقم ١١ ب، فأناخ وجه للجهة الأخرى فرأى تمثال البجعة ثاويًا عند مدخل البناية ١٣ب، وهو يقترب أخذ يدرك أن هذا التمثال لفلامنكو باهت اللون وليس لبجعة، كيف لكاتب الكتاب أن يفوت معلومة كهذه؟ .. بناية طويلة مقارنة بأقرانها، مزدانة بخيوط من الضوء الأحمر يجري في شرائط على جوانب البناية، ألقى بناظره إلى الطابق ما قبل الأخير، ولكن ناره قد خمدت وأضوائه النافذة التي وصفها الكتاب قد خفتت، لا شئ هناك.
رد أحمد بصره وألقى به تجاه البنايات في الجهة المقابلة، فوجدها كعيون متعددة تنظر له وتراقبه، على الأرجح مرسل الكتاب سيكون من سكان أي من هذه النوافذ، ربما من الطوابق العلوية لأي من هذه البنايات العالية، وقف أحمد ورأسه يدور حوله لا يعرف ماذا عليه أن يفعل الآن، هل يصعد إلى منزل السيدة البدينة؟ فلربما يلتق بأرملها بالأعلى.. فإذا وجده فماذا يخبره وماذا يقول له؟، هل يصعد لأي من هذه البنايات ليكتشف من مرسل الكتاب؟ فكيف سيعرفه؟ من الممكن أن يكون مرسل هذا الكتاب هو هذا الشخص المار هناك وهو لا يستطيع أن يعلم.
دلف أحمد إلى مدخل البناية يبحث عن حارسها، ظل ينادي حتى خرج له الحارس، فأخرج أحمد من جيبه بعض المال وتركه في يد الحارس ثم سأله عن شقة الطابق ما قبل الأخير: ما الذي حدث بالضبط؟، علم الحارس عمَا يتحدث فرد عليه: والله ياسيدي إن هذه الشقة -والعياذ بالله- يسكنها الشياطين بأنفسهم، كان ماخورًا تمارس فيه الفحشاء عيانًا، ولكن الله حليم ستار، لعله يستر علينا، كانوا كالحيوانات في الشوارع لا يراعون حرمة ولا يختشون، يقول البعض أن زوجها هو من قتلها طمعًا في أموالها فكانت أكبر منه بسنين، ويقول آخرون أنه قتلها لأنها لم تشبع رغبته كما فعلت غيرها، ويقول زوجها نفسه أن إبنتها هي من قتلتها لأنها جلبت لها العار، ولكن أحدًا لا يعلم أين تكمن الحقيقة ولا حتى الشرطة، ولكن ياسيدي هذه الحادثة لها اليوم أكثر من خمسة أشهر، ماذا تريد منها الآن؟.
تجاوز أحمد سؤال الحارس وسأله: هل زوجها مازال يعيش هنا؟ فرد عليه: لا، لم ير منذ تحقيقات النيابة، فكان أحد المشتبهين بهم رغم أنه هو نفسه من أبلغ الشرطة بالحادث، لم تدنه الشرطة حتى الآن ولم تدن أحدًا أيًا كان ولكنه اختفى.
"هل قلت أن زوجها اتهم ابنتها في قتلها؟" سأله أحمد، فرد عليه الحارس: بلى، فسأله: ماذا قد يدفعه إلى مثل هذا الاتهام؟، فأجابه الحارس: في الحقيقة لا أعلم، لم يسبق لي أن رأيت إبنتها هذه من قبل، كان الرجل يجلب في بعض الأحيان فتايات لتشاركهما فعل الفاحشة، ولكن لم يكن لمثل هؤلاء أهل أو أبناء، بل لم يزرهم أحد إلا للمجون والخلاعة، يا سيدي أذكروا محاسن موتاكم، ربنا يستر على ولايانا.
عجبًا لإيمان هذه المدينة!
سأله أحمد برجاء: هل لي أن أصعد إلى هذا المنزل؟، رد عليه الحارس: بالطبع لا.. يا سيدي المنزل قد حذرت الشرطة دخوله حتى إنهاء التحقيقات، ولما تظن زوجها قد رحل عن هنا؟! ألمثل هذا قريب أو بعيد ليرحل لديه من روح السيدة العجوز! فضحك بسخرية ثم أردف: لا حول ولا قوة إلا بالله.. الحمد والمنة لك يارب.

تقهقر الطبيب أحمد عائدًا يرتب أفكاره وعقله الذي قد شتتته الظنون، ثم ذهب إلى أقرب مقهى وكان على بعد بنايتين، فجلس وطلب قهوة.. التفكير يريد القهوة، ماذا يفعل الآن؟ تداخلت الأفكار في باله، تمنى لو كان الكتاب معه الآن لينهي قراءة آخر ماكتب به، ظل ثاويًا مكانه حتى انتصف الليل، فقرر بعد أن انتهى به اليأس والخوف إلى الصعود خلسة إلى هذا المنزل، هو يعلم جيدًا أن هذا القرار ليس سليمًا البتة، دائمًا توابع مثل هذا القرار تكون أرواح شريرة وجثث متعفنة وأصوات تتردد من جدران الحجرات، ولربما الأسلم له أن يذهب إلى عيادته الآن ليلقي بهذا الكتاب في الجحيم، ويصف بعض الأدوية والمهدئات إلى مايا ولربما يحيلها إلى طبيب آخر، أو يعتزل الطب على الإطلاق، فلم يكن مربحًا بهذا القدر، ولكنه قرر الصعود.

الحارس نائم الآن، حراس البنايات أغلبهم ينامون في وقت مبكر، تسحب أحمد ببطئ حتى دلف إلى مدخل البناية متوخي الحذر، لا يريد أن يرتقي بالمصعد، سيكون هذا فاضحًا، بعد تفكير لهنيهات قرر الصعود على الدرج، "يوم القرارات الخاطئة" يقول في ذهنه، الطابق ماقبل الأخير.. اختلطت الأفكار في ذهنه مرة أخرى، يصعد لمجهول مدجج بالمخاطر بدون ذخيرة أو سلاح، يصل إلى باب المنزل وقد ظهرت عليه معالم وجود الشرطة هنا من قبل.
رفع أحمد الغشاء البلاستيكي الشفاف الموضوع على الباب بتؤدة ليجد من خلفه المنزل مكشوفًا أمامه، ارتعد أحمد أن ليس هناك باب، ألحت عليه نزعة طارئة بأن يعود من حيث جاء، ولكن عقل الإنسان يسعى للدمار، هكذا قد آمن دائمًا، عقل الإنسان يسعى للدمار حتى لو دمر نفسه وقضى عليها، يخطو خطوته الأولى، المنزل مهجور لا نور فيه ولا ضياء، لا روح فيه ولا نفس، قد نزعت منه الحياه ولكن رائحة الكحول تقبع في كل ركن من أركانه، له تصميم غربي بألوان فاقعة، إطار صورة كبير يجمع الزوجين وهما في وضع مخل، حملق أحمد في الصورة لوقت طويل، أخذ يتدبر ملامح وجه الزوجة التي كان يقرأ عنها، كانت كما تخيلها.. أبدن قليلًا، ولكنها كما خلقها في مخيلته، لم ترتح عيناه للنظر في الصورة أطول من هذا فكانت صورة إباحية على أي حال، أجفل أحمد ناظره عنها ثم التفت لصوت قد جاء من حجرة النوم، فتسمر مكانه.. عادت له نزعته "لا تدخل، لا تدخل.. عد من حيث أتيت". لم يعد صوتًا فحسب، ظهرت له فتاة من الظلام تلمع في يدها مُدية لامعة: كنت أعلم أنك ستأتي.. علي أن أفعل هذا!، واقتربت نحوه مسرعةً رافعةً مُديتها.. اضطرب أحمد وكاد أن يفقد وعيه من أثر الصدمة، واجهت عينها عينه فمدت بمديتها في بطنها، قطب جبينه ورفع حاجبيه مفزوعًا يتصبب عرقًا، أطال النظر في وجهها الأبيض والبرد والخوف يسريان في جسده بلا هوادة، كان يجب عليها أن تفعل ذلك!، لم يكن يعرف لما.

كانت الجثة المسجاة أمامه جسد مايا.

عاد أحمد كما جاء، يندفع الأدرينالين في عروقه والعرق يتصبب في أحشائه من الخوف والفزع، لم يدرك إن كان أصدر أصواتًا أم لا، ولكنه يدرك أنه كان يتخبط بجسده في جدران الدرج، عاد مسرعًا إلى عيادته يختبئ بها، قرر إنهاء كل صلة له بهذه القضية، فلتحرق سيدة البجعة الصفراء ومايا في الجحيم، دلف إلى غرفته يبحث عن الكتاب، أين وضعه.. بحث عنه على مكتبه.. في حوافظه.. على الأرض من كل إتجاه.. كاد يُجن، ليس للكتاب أثر، مَن كان هنا بعد رحيله؟، موظفو الاستقبال! لا أحد منهم يجرؤ على أخذ ما ليس ملكه، لا يعلم! كل الأمور قد اختلطت في رأسه .. مشاعره تضاربت، الحمدلله.. قد رفعه الله إليه.. لا.. ربما سرقه أحدهم، هذا دليل إدانة متحرك!، انكمش عقله وتوقف عن العمل.. كما انكمش جسده وتكور على كرسيه يرتجف.. بعد منتصف الليل تهجع الملائكة وتنتشر الشياطين، الخوف يسكن حجرة الطبيب وقلبه.. راح في نومه من الإجهاد حتى أيقظه صوت أخذ يضرب في عقله ويتردد عند أذان الفجر، جرس الباب.. هلع أحمد وارتعد.. غذ خطاه إلى الباب مكررًا السؤال عن هوية الطارق.. أجابه الصمت. فتح الباب بهوادة ولكنه لم يجد سوى الكتاب قابعًا على عتبة داره. التقط الكتاب ثم هرع هابطًا على الدرج حتى كاد أن يسقط باحثًا عمن ترك هذا الكتاب ولكنه لم يفلح في إيجاده.
عاد أدباره ثانية وجلس على كرسيه، تكاد رأسه تنفجر، ونعم كوب قهوة كانت.. ود لو كان فنطاسًا. فتح الكتاب فوجده اكتمل، انتفض على مخدعه وأخذ يلهث يكاد قلبه يخرج من جوفه، وقف وأناخ بجسده على مكتبه واضعًا يديه عليه، يتصبب عرقه منه على صفحات الكتاب ولكنه لم يأبه بها وشرع في القراءة:

"أنت بارع أيها الطبيب، بارع حقًا، ربما كمفتش وليس كطبيب!.
الآن تظهر الحقيقة، الآن تهدأ وتستكين.
مايا هي إبنة السيدة العجوز البدينة، هي إبنتها الوحيدة.. تركتها وهي طفلة رضيعة وها هي الآن تحتفل بريعان شبابها جثة هامدة في بيت أمها المنكوب، كانت مايا تشتعل من داخلها يملأها الحقد والغضب حالما عرفت بحقيقة أمها وواقعها المشين، كان لمايا حاضر ليس أقل سوءًا من حال أمها، ولكنها لم تجد لأمها دافعًا ولا غافر، لم يكن الموضوع صعبًا لتجد نفسها في غرفة واحدة مع أمها وزوجها، فكان الزوجان يفعلان أبشع من هذا، لاحظت الفتاة عدم الرضا على محيّا أمها وهي ترى زوجها يعتليها أمام عينيها، كان الغضب ينبثق من بئر عينيها الهادئتين، تعمدت مايا إثارة الرجل الأصلع لتثير حنق الأم أكثر فأكثر وقد نجحت بالفعل، بعدها بأيام اندلع شجار بين الزوجين سببه مايا، لعنته السيدة في شرفه ورجولته، انقلب وجهه وزمجر وضربها بعزمه في كتفها وصدرها، كانت تصرخ من الوجع والألم، ليس أمامه.. أمامه كانت قوية وصلبة، ولكن بمفردها بعدما ذهب، ظهر عليها الهرم فجأة، أصبحت تتحرك أقل، تستيقظ كل ليل وتنام كل نهار، لم يعد حالها كما كان، وكأنها أدركت فجأة أنها كبرت في السن، بالطبع هو يريد فاتنة صغيرة تتلوى بين يديه، ترتفع أناتها فتشبع خيلاء رجولته، لا يريد عجوز بالية ضربت فيها أمواج السنين حتى برتها، فكرت بالطلاق بالفعل.
 ستسأل من أين أعلم حقيقة كهذه، لا يهم.

زارتها الفتاة زيارة مفاجئة، لم يكن الرجل موجودًا كما ذكرت، أخذت تتحدث معها وهي واقفة على الباب دون ولوج، كانت السيدة على شفا جرف هاو من الإنفجار في وجهها، فهي تعلم جيدًا أنها تكرهها، فالأوقات التي حلت بها هي الأوقات الوحيدة التي ثبطت فيها شهوة السيدة البدينة منذ انقطاع الحيض عنها، أخبرتها مايا في البداية قصة قصيرة، حكت لها فيها كيف نشأت، وما الذي رمى بها إلى عتبة هذا البيت المشبوه، أخبرتها أنها كانت تنام في العراء لليالٍ ولم يد لها أحد يده إلا ليعريها، تركتها أمها وهربت.. وتركها أبوها ومات، وتكالبت عليها الأيام.. تعاطفت معها السيدة تعاطفًا يشوبه سوء الظن. قالت لها أنها تمقت أمها، فهي عجوز شمطاء لا قلب لها، تركتها ورحلت ولكن منذ عدة أسابيع كانت المرة الأولى التي تسمع عنها، ولم يكن بالخير.. قالت لها: من دلني على أمي قال لي إنها أمرأة لعوب، لها قدم في القبر وقدم في سرير المجون.. خجلت منه.. زاد حنقي على أمي. بدأت السيدة البدينة في الإنحسار والتراجع، انطفأت نار غضبها وتحولت لإرتياع وترقب، تريد الوصول إلى مآل حديثها، فأخبرتها مايا وقتها أنها أمها. ثم همت بالرحيل بعد أن قالت لها: آسفة يا أمي علي أن أفعل هذا!.
بعدها جاءت مايا مرة أخرى، كان الباب موارَبًا.. لا بل كان مفتوحًا، يتيه الزوجان كلاهما في متاهات الجنس والثمالة، ارتاع قلب مايا وارتجفت السكين في يدها.. التقطت زجاجة نبيذ من الأرض حيث كانت الزجاجات الفارغة واقعة متناثرة، اقتربت مايا منهما، يلتحم جسدهما كما الخنازير في الوحل، دنت مايا من زوجها فضربت رأسه بالزجاجة فهوى بجسده العاري على الأرض، كانت عينا مايا خاليتان من الملامح، قلبها خالي من الإحساس، عقلها شارد في لا وعي عميق.. لا يلجه إلا شيطان الإنتقام.. لم يظهر على أمها نظرات الهلع قدر ماكانت تحاول أن تستر سوءتها، رفعت غطاء السرير وغطت به نفسها ونظرت في عين مايا مستعطفة، ولكن مايا كانت غائبة.. أخذت تقلب عينيها في جسد أمها العاري، والدماء تندفع في رأسها، ضغطت على سكينها وغرسته في قلب أمها، فانطلقت من فمها صرخة مكتومة منبعها الألم والندم، اختلج اللون الأحمر غطاء السرير واختلط جسد السيدة بالدم والعرق.

بعد مقتل السيدة البدينة وبعد انتهاء التحقيقات زارت مايا منزل السيدة البدينة مرة أخرى.. يوم رأتني من النافذة.. حاولت معرفة إن كانت رأتني حقًا أم لا، فدونت منها وتعرفت عليها لأجس نبضها، كانت أفعالها تُبدِ أنها لم ترني من قبل.. ولكن بعدما التقيت بها عدة مرات قال لي: لقد رأيتك يومها.. وصمتت. أدركت أن علي التخلص منها.
بعدها وبعد أن أفاقت من لا وعيها الهادئ وقد أدركت ما جنته يداها، دخلت مايا في نوبة هلع وارتعاد ، و لم يعد النوم يزورها إلا نادرًا، جائت لي طلبًا في المساعدة ولم أكن لأبخل بها عليها، فهي لا تعلم درايتي بالقضية كلها، لا تدري أني شاهد عيان على الأحداث بتفاصيلها، الشاهد الوحيد، وصفت لها دواءً مهدئًا له عدة آثار جانبية، أصابها بنوبات نسيان وهلوسة، ونصحتها بالمجئ إليك. كانت ترتعد كلما أخبرتها أنها قتلت أمها وقد كانت الذكرى خافتة في ذاكرتها، ترتعد من كل من له علاقة بالشرطة حتى رجال المرور، كنت دائمًا أخبرها بأن مصيرها الإعدام إن لم تختفِ، نصحتها بالبقاء في بيت أمها فلن يعثر عليها فيه أحد. ولكنك -وبفضل هذا الكتاب الذي بين يديك الآن- فعلت.
أيها الطبيب .. سأسدي لك النصح كما أسديته لمايا -رحمها الله- من قبل: حياتك لم تعد آمنة.

-تمت-

تعليقات

المشاركات الشائعة