في جانب آخر من الحياه
٤-في موقف المركبات يهبط الفتي وتعتري وجهه علامات الضجر ، العرق يسيل على وجهه القمحي ليزيد من ضجره واضطرابه ، يندفع الناس من جانبه ومن خلفه فيدفعونه فيكاد أن يسقط فيزداد حنقه ، لاعنًا المواصلات كلها والبشر جميعهم وكل عوامل الطبيعة التي إجتمعت اليوم لتضيق خناقه وتحث غضبه المعتد. يدلف الفتى ببطئ في ممرات الموقف مستجمعًا نفسه وعقله ، يرتب الأفكار في رأسه ، يتذكر مشاريع مادة تلك المعيدة التي لا يعجبها شيئًا على الاطلاق والتي لا تطلب شيئًا ويُحقق إلا وترفضه، لها هذا الذوق الرفيع من اللاشئ ، فلا تقتنع بأن هنالك هكذا شخص قادر على تلبية غرضها ..
يتذكر بُعده هذا الذي طال عن ملاذه و وطنه ، غربته عن أمه ، استوحش ذلك الحضن الذي تنسل فيه الالام عن جسد ربها وتتبخر ، وتصبح راحة وحبًا ، يمشي ويتذكر مشاكل الكون التي وقعت في غفلة منه فوق رأسه ، فلا يعلم كيف أتت ولا متى ، ولا يسطع حتى تداركها وحلها ، فما في الكون بائس إلاه ، ولا مخلوق يملك هذا القدر من التعاسة التي لديه .. في طريقه يستوقفه السؤّال والشحاذون والباعة، يسألونه المعونة أو المال أو الشراء، يلمح هذه السيدة تبتاع بعض البطاطس والطماطم والفاصوليا وتختلف مع البائع على بضعة قروش وحسب من ثمن الحاجيات، وهذه أخرى تجر إبنها يبكي بين يديها لأنها أبت أن تشتري له هذه الحلوى أو تلك اللعبة، وهذا فتى يجري وعلامات الخوف والرهبة على وجهه ربما تأخر عن اختبار أو فقد عزيز له ، وهذا الرجل يغذ الخطى متكئًا على عصا خشبيه متآكلة رديئة ، تخل من إتزانه لا تساعده ، تلمع عينيه ببادرة الدمع لا تدري أكان يبكي فرحة أم وجعًا ،أم أنه فقط الهواء قد استحث عينيه فأفضت بدموعها .. وطفل صغير عاري القدمين يحوم حول أمه التي تبيع الجبن في هذا الطست المعدني الذي لا تعرف مدى نظافته والذباب يطير من حوله ويحوم كما الطفل ، يحفر بيديه في التراب تارة ويجري بهذه العصا الحادة تارة أخرى .. والسائقون يهتفون على بضاعتهم هم الآخرون ، فينادون على محطات توجههم ، ويجذبون المارة كأنهم سيقنعون أحدهم بتغيير وجهته بهذا الجذب الغير مفهوم..
يتعثر فتانا ويسقط بعدما غاب عقله في الناس من حوله ، أرهق جسده الحر وطول التنقل ، وأرهق عقله التفكير .. يجلس على صخرة في أحد أطراف الموقف ، ينظر إلى الناس بتمعن وتدقيق كأنه يحاول التسلل إلى داخل عقولهم وأفكارهم ، لماذا يمشي الناس من حوله بهذا الوجه الكشر كما وجهه ، لما تظهر هموم الدنيا على ملامحهم كذلك كما ملامحه ، فأدرك أنه ليس الأكثر بؤسًا هاهنا ،ولا في أي بقعة أخرى .. فربما هذه السيدة تقتصد في مصاريفها لتدخر بعضًا لزواج إبنتها ، أو لغسيل كِلَتها أو لعلاج زوجها المريض، وربما هذه الأخرى اعترى الحزن وجنتيها بعدما إنفصلت عن زوجها أو دب شجار بينهما، فتجر طفلها الذي مازال كفتانا يظن بأن دميته التي لم يربحها هي كل متاعب الدنيا وشقائها ، وهذا الشاب الذي يجري ليلحق بأمه في المشفى بعدما وصله خبر مرضها ، والكهل العجوز ماكان يبكي إلا شوقًا لأبنائه الذين حرموه رؤيتهم وانقطعوا عن زيارته ، وهؤلاء الخلق الماشون من حوله كل في دربه ، وكل له ضائقته التي تشغل باله وتقلق راحته ، فهو ليس الأبئس على الإطلاق .. أدرك ذلك جيدًا .. كما أدرك أن هذه الدنيا ليس فيها من هو الأكثر شيئا مطلقًا ،فربما تختلف المصائب في لونها وقدرها ولكنها قائمة ، وأن دميته تلك التي لم يربحها أو تأخر آن نولها ، سيكتب له يومًا ويجنيها ، ولكن ليس في موقف المركبات بالطبع..

تعليقات
إرسال تعليق