صفيحة الزبالة



في إحدى شوارع القاهرة ، كان هنالك "صفيحة زبالة" لطالما تردد عليها أهل الحي وعمال النظافة لإلقاء نفاياتهم ، برغم أن هذه "الصفيحة" في إحدى أعرق أحياء المحروسة ، حيث يتميز المعمار بالألوان الراقية و الأحجار الضخمة ، إلا أن "الصفيحة" قد طبعت رائحتها على المكان من حولها ، فما يمر مار إلا ويصاب نَفَسه بإختناق شديد فيسرع الخطى حتى يظفر بروحه من هذا الشارع ..

ولكن مالم يكن يعلمه هؤلاء المارة أن لهذه "الصفيحة" سكان كما لهذا الحي.. فهنالك عائلة كاملة تعيش خلف جدران هذه "الصفيحة" ، يعيشون فيها منذ أمد بعيد ، حتى أصبح الأكل النظيف مرهق لبطونهم ، و الهواء النقي يتعب أنفاسهم و قد يودي بحياتهم .. ومع ذلك كانت هذه "الصفيحة" هي مأواهم الوحيد ، بيد أن الأب له دكتوراه في هندسة الكمبيوتر و الأم بكالريوس في العلوم ، إلا أن الخوف حجزهم عن مواجهة العالم الخارجي. فعندما يكتب لهما ويخرجا للتعامل مع الخلق فكأنهما الوحوش من البرية يتعاملا مع الناس بخشونة ، خشيةً من الهجوم عليهم. ومع هذا المزيج من غياب الوعي بما يدور حولهما والخوف من أن تخذلهما قواهما في مواجهة الواقع، عاشا بولديهما بين أكوام "الزبالة".

وفي أيام غشى المزن فيها العلياء فغابت الشمس ولم تظهر ، هبط الغيث على كل داع مستغيث تحل بقطراته البركة ، وهبط الغيث على "الصفيحة" وفي مياهه العقاب ، فالمطر لا يغيث ساكني العراء ولا أهل الصفيحة ..

جاءهم رجل يانع قد بدى في وجهه علامات العطف والإشفاق، حمى الأب أهله خلف جسده خوفًا من أن يكون هذا الرجل شبيهًا لهذا الطبيب الذي رفض توليد زوجه يوم طلقها ، أو بهذا الموظف الذي رفض طلب توظيفه بعد أن تخرج ..

تقدم منه الرجل ومد يده مصافحة للأب ، فاصحًا عما في جعبته ،"أنا أملك شقة في هذا المبنى وأعرض عليك أن تأوى فيها كريمًا أنت وأهلك" تردد الأب لبعض الوقت .. هطل المطر ثلجًا على رأس الرجل ، بعدما طال إنتظاره أشار الرجل للأب على البيت وأخبره أنه متاح له وقتما يقرر، كان العرض مغري ولكن الشرط صعب ، أن يعيش حياة كريمة ، وأن يخرج من "الصفيحة"..

أنا لست مستعد للخروج من "صفيحة الزبالة"..

ولكن بعضًا من طبيعته الإنسانية أشارت عليه بالخروج ، بعضًآ من هذا الكبرياء الذي إعتاد عليه في شبابه ، بعضًآ من تلك الإرادة التي عاش وأنجب دون أن يتمتع بها ، بعضًا من هذا البريق الذي حرم نفسه وأهله أن يتمتعوا به ، خيط رفيع من الأمل تسرب بين أضلعه وخلص في فؤاده إنتهى به إلى قرار الخروج ..

كلاب ضارية إستأنست الطريق ، دائمًا ما تكلف العناء في هشها عن "صفيحته" ، أناسًا بلا مأوى مثله يلوذون بالـ"كراتين" لتحميهم من المطر الهاطل ، حيوانات مشردة مثله لا تجد مايأويها من عصف المطر فيختبئون تحت أسطح السيارات ، و البلطجية من رواد المنطقة لا يحلو إنحرافهم إلا في ليالٍ يشتد فيها المطر مثل هذه ، فهو غيث لهم كذلك ..

الطريق وعر رغم قصره ، لكن الخوف سيد قتلة النفوس ، يتردد لوهلة .. من ثم خرج بنفسه أولًا من الصفيحة ، ربما قد نسى شعور أن يكون خارجها ، من ثم خرج أهله واحدًا تلو الآخر .. الكلاب تصيح بنباح يصم الآذان ويرجف القلب .. تجري عليهم من كل جانب ، يرتجف الأولاد بين يدي والديهما ، يربت الأب على صدورهما برفق مطمئنًا ، حاول السير بهم في الطريق محاولًا إهمال نباح الكلاب من حوله ، لكنهم لم ييأسوا حتى عض أحد الضواري ساق زوجته ، سال الدم علي ساقها المتسخ فجرى أسودًا على الأرض من تحتها ، توقفت لثوانٍ فكر فيهم الأب في العودة إلى "الصفيحة" ، شدت على يده في حزم مانعة إياه ، نظرت في عينيه مصرةً على المضي فيما بدءاه ، أماء متفهمًا ، أكمل بهم في الطريق مسرعًا ، قاوم إضطراب قلبه وتصاعد أنفاسه حتى خلص إلى الجانب الآخر من الطريق ، لم تتبعهم الكلاب فشعر بالنصر بعض الشئ ، زادت النشوة في قلبه "أستطيع إكمال الطريق .. مازلت قادرًا على النجاه" ..

هم مع أهله لعبور الشارع ، لم يتبق الكثير على بيت الرجل ، ووما أن وضع قدمه في الطريق محاولًا المرور حتى ظهرت سيارة من العدم كادت أن تدهس ولديه ، سقط الطفلين في قارعة الطريق بعد أن حاولا تفادي السيارة المسرعة ، و ماهي إلا لحظات حتى خرج من خلف أثر عينيهما حينما شاهدا السيارة رجلين ضخمين يحجبا رؤية ماخلفهما ، إقتربا منهم ببطئ والأب يخفي أهله خلف أضلعه حاميًا ، جذبه أحد الرجلين ولكمه ضربات عديدة حتى سقط على الجانب الآخر من أهله ، بطرف عينه التي غشاها الألم رأى الأب أحد الرجلين يجذب زوجته من ثيابها ، وآخر يضربها ، إشتد الوهن على الأب ولم يقدر على الدفاع عن زوجته ، إكتفى بالمشاهدة التي تخللها الحسرة و الضعف، رأى ولديه يجرون عدوًا جالبين حجارة صغيرة من جانب الطريق ، بدءا في رشق المغتصبين بالحجارة حتى أحدثا لهما إصابات أدمت أحدهما فأنشغل به الآخر عن أمهما ، تداركت الأم ثم ساعدت زوجها على القيام و عبرت به الطريق ولحق بهما الطفلان ، حاولت الأم إخفاء ما بدى من سوءتها التي طلاها الوحل والجروح .. هانت نفسها فبكت على كتف زوجها الذي لُطِخ بدماء وجهه ، إحتضنت أطفالها و ضغطت على ذراع زوجها داعية لإستكمال الطريق..

"صفيحة الزبالة" في جانب ، و "المأوى" في الجانب الآخر .. وبينهما يتخلل خطر الموت ..

جذوا الخطى حتى وصلوا لأقرب نقطة من دار الرجل ، إستجمع الأب قواه ثم أدار ذراعيه حول ولده وزوجه ، دنوا من بوابة البيت فدلفوا ، فحياة كريمة تنتظرهم في الأعلى ، صعدوا مرتبات الدرج بتوجس وترقب ، حتى وصلوا لباب مفتوح ،فكما وصف الرجل فيجب أن يكون هذا البيت هو البيت المنشود، دفع الأب باب البيت ببطئ آملًا أن يلاحظه ربه ، ولكنه وجد جثة ملقية وراء الباب يجري الدم من تحتها ، فدخل الأب مسرعًا ليرى ما ران بالرجل ، "إنه أراد مساعدتي" ، جس نبضه فلم يجد نبضًا .. فنظر لزوجته بوهن وقلبه يرتعد ، "مات"..

على طاولة مجاورة لجثمان الرجل وجد ورقتين ، إحداهما تثبت تنازل الرجل الميت عن شقته للأب لتكون ملكه و أولاده ما بقى حيًا، والأخرى رسالة تركها الميت خلفه .. "هذا البيت تركه أبوه له هو وأخيه ولكن الرجل الميت لم يكن يعرف طريق أخيه ، وماكان يعلم بحقيقة البيت قبل أن ذهب أخوه دون أن يترك لها أثرًا ، ولكنه إكتشف في صباح هذا اليوم أن أخاه وأهله يسكنون "صفيحة زبالة" فالشارع المقابل" ..

فلم تأخذ الصدمة أن تتكون على ملامح الأب حتى وجد من وراء زوجته رجل ضخم الجثة ، موجهًا سلاحه نحو ولده ، مطالبًا إياه أن يترك له الدار عنوة و إلا كان الموت مصير ولديه..

إرتعد قلب الأب لوهلة ، فولديه تحت رحمة رجل لم يتردد قط عن قتل الرجل الميت أو "أخيه" ..

مر أمام عينيه ماعاناه منذ أن إستلم شهادة تخرجه وتزوج وأنجب طفلين ، تذكر طعم "الزبالة" و رائحتها ، إحساسه عندما وطئت قدميه الشارع بعد سنين من الخوف داخل كنه .. النشوة التي غمرته عندما نجا بزوجه و ولديه من الكلاب والبلطجية .. فرفض .. رفض أن يسلمه حقه الذي سلب منه لعقود ، رفض أن يتنازل عن الأمل الذي قد أماته وحشة الخوف والفزع من مواجهة الناس، رفض التنازل عن البيت الذي راح أخوه فداءًا له ...

فأقترب منه الرجل وعلى عينيه تظهر علامات الغضب ، خطف منه الورقة في عنف ، ثم شرع في ضربه حتى سالت منه الدماء فجذبه من قدمه فرماه خارج البيت ..

أسرعت الأم بالخروج قلقةً على زوجها وتبعها الطفلان ، نظر الأب للرجل في وهن "هذا حقي" ، ضحك الرجل بسخرية من ثم انتشل أحد الولدين بين يديه ، ثم تابع مهددًا "إن إقتربت هاهنا مرة أخرى ، فصدقني مصيرك لن يختلف عن مصير أخيك مثقال ذرة" ، ثم نظر إلى الولد وقال بصوت أجش "أما هذا فهو حقي" ، وأغلق الباب من خلفه ..

هبطت الكلمات كالطلقات على قلب الأب فزادته فزعًا فوق فزعه ، همت الأم باللحاق بالرجل ، ولكنها وجدت يد الأب تمنعها ، فهمت مايدور في خلده ، إندهشت في الباية ولكن بطريقة ما إستراحت له ، وكأنها أرادت الحجة التي لا تحارب بها لإستعادة إبنها ، خيم الخوف في المكان ..

الطريق مازال وعرًا لكنه ممهدًا إلى ملاذ مضمون ، يعرفونه جيدًا .. لا يحتاجان فيه لمواجهة هذه المخاطر مرة أخرى ، يستطيعا أن يحافظا فيه علي ماتبقى من عائلتهما في مأمن بعيدًا عن خطر "طلب الحق" .. إسترخت أعصاب الأم في كنف زوجها محتضنة طفلهما ، ولكني لا أظن أنهم سيعاودا الخروج مرة أخرى من "صفيحة الزبالة" ..#لساها_ثورة_يناير

تعليقات

المشاركات الشائعة