لم يره أحد.*



أمي تريد أن تزوجني.
"البت مالهاش غير بيت جوزها".. لم تعبترني يومًا بنتًا، فأنا "بت"، عاملة المشغل بعد دوام ساعات المدرسة الثانوية، "البت لازم تشتغل عشان تصرف على اخواتها".. ولما لا يصرف إخوتي على أنفسهم.. حياة لا تطاق، أتمنى الخلاص في كل لحظة. لم أستطع الإستمرار في إحكام غلق عيني، أو التفكير في ذلك النهار الذي غازلني فيه شاب بعد إنتهاء الدوام، التفكير في صوت "الست عيشة" بائعة البرتقال والليمون أسفل شباك غرفتي، التفكير في أي شئ على الإطلاق، فصوت زغاريد خالتي تتردد بين جدران الدار. لما أنتِ هنا؟ لما لستِ بجوار إبنتك البلهاء المتعجرفة.. أمي لا تعتد برأي سوى رأي خالتي.. سيدة منتصف الليل كما كان يدعوها أبي خفية. لما أبي ليس هنا؟. بالرغم من أنه لم يكن ليعارض قرار قد إتخذته أمي.. و بالرغم من أنه كان ليبادر على موافقتها والسعي لإرضائها، إلا أنني أشعر بالشوق لأحد ما أيًا كان، لوجه غير تلك الوجوه التي تلف بأذرعها حول عنقي.
"مجايب خالتي!"، لم تستيغ أمي دهشتي، صافح كفها وجهي، "ياما جاب الغراب".. أليس لخالتي إبنة مثلي، لما لا تحتفظ بحليب بقرتها لنفسها. اللعنة على خالتي !

"عايزاكي تزوقيها خليها تغري عينيه".. اصطحبت خالتي "بلانة" من معارفها إلى غرفتي دونما أسمح لها بذلك.. أصبح الموضوع جديًا، نظرت بدهشة إلى محيا خالتي الضاحك، وكأنه الشيطان الشاهد على لثم الزناة في بومباى المدمرة، أنا لا أعرف ما هي بومباي تلك، ولكني عرفتها من "القصص الخارجة" التي ترويها الفتايات في المدرسة لبعضهن في أوقات فراغهن. سلمت وجهي لتلك المرأة شاحبة الوجه، نحيفة الحاجبين، كثيرة المعاجين فوق جفنها. طالما طلبت من أمي أن أذهب إلى "الكوافير اللي في الشارع اللي قصادنا" مع زميلاتي في المدرسة، بعدها نترجل إلى أي مكان ربما الكورنيش بعيدًا عن زحام البلد وأعين جيراننا، ولكنها دائمًا ماكانت تنهرني.. "قليلة الرباية". 
واليوم تأتي "الكوافيرة".. تأتي بنفسها إلى هنا، اليوم وليس أي يوم آخر، ليس هذا اليوم الذي كان فيه "حنة تهاني" التي مُنِعت من حضوره، ولا من حفلة تلك الفرقة التي إدخرت ثمن تذكرتها "بطلوع الروح" حتى أحضرها، وحُبِست في غرفتي.. ولا في أي يوم آخر تشتعل فيه رغبتي بأن أكون سعيدة. اليوم وليس أي يوم آخر.. 

جاء مع أهله وخرجت مترددة، حاولت إشغال ذهني مرة أخرى.. فكري في أي شئ آخر.. فكري في المدرسة الثانوية والمستقبل.. نعم الثانوية، "حمام" البنات.. لفافات التبغ والسجائر المحروقة المدعوسة فوق فوهات الصرف بالمراحيض، حصص الإقتصاد التي تحكي فيها الفتايات عن أصدقائهن من مدرسة البنين، يمنى تحب محمود لأنه "مقتدر"، يأتي بدراجته البخارية أمام المدرسة كل خميس حيث لا يتعارض مع مواعيد عمله مثل بقية أيام الاسبوع. وهناء تحب البنين جميعًا، كل من تغزل بها تحبه.

هذه المدرسة الثانوية، فماذا عن المستقبل.

"يبقى نقرا الفاتحة"..
إشترطت أن لا يكون الزفاف بعد الفاتحة بوقت طويل، أريد الزيجة قريبًا، أسائت أمي الظن بي، وخالتي كذلك رفعت حاجبيها مندهشة وذمت شفتيها بتذمر، محولة عينيها بين الشاري وأهله خاجلة من سوء خلقي وتصرفي، "عايزاهم يفتكروكي ايه ها ؟ .... ؟ عايزة بسرعة ليه؟" نهرتني أمي بعدما رحلوا، بينما وهم جلوس ساد الصمت، حتى قطعه العريس بالموافقة وإنه لا يمانع، مبتسمًا في وجهي إستمالةً وقرعًا على أبواب نفسي فترضى. غالبت نفسي نفسي لترضى وما استطاعت. لم أخبر أحد بسبب رغبتي في سرعة الزفاف. ولا أمي ولا خالتي ولا أبي الذي جاء لي بالمنام يضحك مُهنيًا.
استخلصت في النهاية أنه يجب أن يكون لي دور، فأنا كنت أعلم جيدًا إستحالة إثناء أمي عن قرار قد إجتمعت فيه مع أختها، فما رغبت إلا لإشراك نفسي، أردت أن أضع لي قوانين وقواعد، أشارك في إتخاذ القرار، حتي ولو تم تعنيفي..
وأيضا أعلم بأن كلما كان الذبح أسرع كلما كانت أكثر رحمة بالضحية، كنت أعلم أنه كلما طال الزمن كثر الضغط والوحشة. كلما زاد جنوني وعبوسي، كلما حاولت أكثر بأن أقاوم بلا أمل ولا نتيجة.

"الواد ابن حلال وهيعيشك"
"عايزاكي تبسطيه وتتزوقيله"
"بعد أول عيل هتنسي كل حاجة"

كان ابن حلال؟ لا أعلم.. لم تكن الحياه بيننا بهذه الحميمية، اللهم إلا لشهوته، ولكن غير ذلك كنا رجل وامرأة كتب لهما القدر أن يكونا في نفس الدار فقط. كان هكذا بعد الزفاف و حتى الآن، لا.. ليس للآن، ولكن لوقت قليل قد مضى.
جاء الحبل الأول، خالتي لا تكف عن الزغاريد، أمي لا تكف عن إتخاذ القرارات.. "اللي في بطنك ده لازم يبقى ولد".. سرت فيّ الرهبة إثر قولها.. ولكنني كنت لا أعلم حقًا ما الذي يتطلب مني لأنتج ما في جوفي ولدًا. أهنالك معجون أدهنه أو عشب "أبِلُه" في الماء وأشربه، فيشكله ولدًا. كنت خائفة فقط.. أعطني حلول يا امرأة، لا تلزميني بإتمام عملية إنتحارية بلا ذخيرة أو سلاح.
لكنه جاء ولدًا. ربما بسبب نيتي؟ أوليس هذا عملًا؟ أوليست بالنيات كما قال الشيخ في التلفاز في خطبة الجمعة؟.

أصبح ذلك الصغير ملكًا لي، طوع أمري وإحتكامي، لن أرغمك على الزواج يا صغيري! لن أرغمك على شئ على الإطلاق، ستختار أنت.. ثيابك ومظهرك،حبك ومستقبلك. لن أرغمك على المذاكرة ولا على الإستيقاظ مبكرًا يوميًا للحاق بيوم ممل من أيام المدرسة.. ستختار أنت عروسك وزفافك.
لا أعلم إن كان زوجي قد شعر بزيادة روح جديدة في حياتنا أم لا، ولكنه لم يبدي أية دهشة أو إهتمام.
"احنا هنسافر نعيش في مصر" أخبرني.. لم يكن ليسأل أو يشاور ولكنه كان يُعلمَني بأنني سأنتقل في غضون يومين إلى بلد آخر لا أعلم فيه أحدًا، سأعيش خلف جدران بيت تحوم حوله الأرواح الغريبة.
"أنا قلت لامك وماعندهاش مشاكل"، عقلي يرد ويصرخ في وجهه يعترض ويأبى. بينما يرى هو وجهي الخانع وعيني الموافقة الراضية. سافرنا إلى القاهرة حيث نقل عمله، لا أعرف ماذا يعمل؟ أو لا أهتم. لا آبه إن كان حارس عقار أو صاحبه. ففي النهاية هو ذلك الرجل الغريب الذي يستلقي بجواري كل نومٍ، وفوقي كل رغبةٍ.
بعد إسبوع من الولادة ويومين من السفر، كان قد رغب في مرة أخرى.. حيوان أشعث تغطيه رائحة الدخان والتبغ، كما يغطي الغبار عمال المحاجر. رائحة نفسه النتنة تشعرني بالغثيان كلما إقترب، سكران يغيب عقله من خمر شهوته.
لعمر أمي، إنها لم تكن لتستطيع أن تعيش مثل عيشتي هذه، فهي تترحم كل يوم على أبي وأيام دلاله لها ومطاوعته إيها وإعلائه كلمتها. لن تستطع المواصلة في تلك الحياة الباردة الثلمة الخاوية. أنانية. مادام الضرر لن يطولها فلا تأبه ولا تهتم. اللعنة على أمي وخالتي.
"استحملي عشان الواد"
نقلتني "ست منى" إلى المستشفى هي وزوجها إلى المشفي العام، بعد أن كسر باب دارنا جراء إستغاثتي، الدم يسيل بين أصابعي مغرقًا عبائتي السوداء ..إبني لم يعد بجانبي. والرجل، لم يره أحد.
أمي ليست هنا.. ربما إذا سمعت خالتي الخبر كانت ملأت فضاء حياتها زغاريد.
أخبر الطبيب "ست منى" أنه سوف يجري مابوسعه لإنقاذي. "الحالة حرجة.. ممكن مانعرفش نعمل حاجة". صراخ إبني يتردد في عقلي ويغطيه صوت أنيني ووجعي. الرجل ليس هنا؟ الرجل الذي هددني ليلة أمس بالقتل ليس هنا؟.
أخبرني برغبته في الزواج من إمرأة أخرى؟ إمرأة أخرى تأتي لتأكل الفتات الذي يتقوته إبني من فم أبيه الفاسق. لم تخالف عيني عقلي هذه المرة، إمتعضت.. رفضت.. صرخت في وجهه فنهرني وعنفني... هددته بأن أخلعه، لا أعلم معني الكلمة ولم أكن لأسعى في تنفيذ تهديدي. بالغ في ضربي.. إلتقط سكينة وأسقطها في بطني. فر هاربًا أخذ إبني معه. 

سألني الضابط عن الفاعل، قالت له عيني بأنه الفاسق زوجي، ولكن لم يقلها فمي.. لو قبض على الرجل، فلم يعد هنالك أحد هنا ليعتني بالطفل. لا أحد سيعلم عنه على الإطلاق.
لعل زوجته الأخرى تعتني به. إلى الجحيم أنا. يجب أن يعيش الطفل.

*عن قصة حقيقية.


تعليقات

المشاركات الشائعة