المؤيد حي


"لا يكْلم أحد في سبيل الله، والله يعلم من يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون دم، والريح ريح مسك"

في ألمرية، تنعكس أمواج المتوسط على المدينة فترتد صورتها بحرًا غنيًا مخبرًا، تنسحب الآشعة الأخيرة للشمس متقهقرة كالخدم في حضور الوالي الأعظم، تقف قصبة ألمرية شامخة تخبر البحر بذكرى الأيام والحروب شاهدة على المدينة من علٍ، البيوت متجاورة في ترتيب غير منظم، مكعبات بيضاء تسكن فراغ ضيق من المكان، وكأن البيوت تتناحر بعضها بعضًا لإرساء قواعدها بدلًا من الأخرى، فأحالت شوارعها أزقة تتداخل كما الغصون في الأياكي العظام تتشاجر وتتشابك بغير نظم أو سبيل.

في الجانب الإسباني من المدينة ، بميدان "جالينو " انحدر مانويل بعد يومه كالعادة مترجلًا قاطعًا الطريق من مركز التفاسير  بجنوب ألمرية حيث يعمل إلى داره في شارع "سارغنتو" كل يوم بعد انتهاء دوامه حالّاً متاهات شوارعها بالتمرس، فقد جاء إلى هنا منذ ثلاث سنوات تقريبًا يرى نفس الوجوه ونفس البيوت ويقطع نفس الشوارع، حتى شاغلًا نفس الوظيفة، مفرطًا في تقليد التنقل بين الوظائف الذي يسلكه أي مهاجر إلى بلاد العجم.

العادة هي آفة بني آدم، فمتى اعتاد البشر شيئًا حسبوه فطرة وطبيعة، حتى وإن كان شرًا شنيعًا.

دلف مانويل يمينًا بطريق "ألبوران" ثم إلى "ديموستينس" عابرًا طريق "المدينة"، في زقاق ضيق يمر، تميل أفكاره المبعثرة بألباب عقله إلى راحة قادمة ونوم عميق، نظر يمينه إلى سور من الحجر الأصفر يرتفع مع إرتفاع ميل الطريق، قد إعتاد المراهقون أن يكتبوا عليه عبارات نابية وكلمات دارجة و أحيانًا ينقشون أسمائهم بألة حادة تخليدًا لها على هذا السور الزائل، أراح عينيه على النقوش يقرأها فإذا بهما يقعا على عبارة بلغة عربية يألفها "المؤيد حي"، عبارة مبهمة مثلها كمثل شبيهاتها على سور "ديموستينس"، لم يلق للكلمة بالًا وأكمل طريقه، فبه فاتحًا باب داره، راميًا بجسده الذي أنهكه الألم و الغربة على مضجعه.

****

في المعارك كان النبي محمد يولي على جيشه قائدًا بمقتله يعلو آخر، و بمقتل الثاني يعلو ثالث، ولكن على كل حال كان للجند قائدًا واحدًا، فلا يحرك الجند سوى أمر منه ونهي. ولكن إذا احتال الجيش إلى طوائف فانقسم، فتأخذ كل كتيبة تخرج عن أمر قائدها إنصياعًا لآخر، فسيقتّلوا جميعهم بلا هوادة.

هكذا الحال الآن، أصبح الحكم اليوم هو الغاية، الرغبة في السيادة والاعتلاء أعمت أبصار الأندلسيين، وقف بين شيعته في قصر إمارته بإشبيلية أبو القاسم بن عباد، ينظر إلى الفضاء بتمحيص، أنحى بصره إلى عدد من عماله مستدعيًا، مد لهم يده بكتب مختومة، آمرًا أن ترسل هذه الرسائل إلى ملوك الطوائف في الحال. أقام ظهره وأسدل لحيته بين أصابعه، ثم أناخ على أحد فتيانه مهمهمًا ثم قام.

يصل الكتاب المغلق المختوم أرض قرطبة الزهراء، مهبط قلوب البشر من عرب وعجم، مسلمين وأولي عزم، زهراء الله في أرضه، وأجمل أراض الله قاطبةً. وكان يملكها في ذلك الوقت الوزير القاضي أبو الحزم بن جهور، وكان حين حل الخطاب يجتمع حوله بعض من خاصته وحشمه وحاشيته، يتدبرون أمر قرطبة المتنازع عليها، يريدها ملوك الطوائف و يطالب بخلافتها الحموديون، وتنزع منها الملوك كنزع الشأف. فتح الكتاب بن جهور، حاكم قرطبة. يقرأ مافيه وإذ بإبتسامة متهكمة تخرج من جانب فمه، تتبعها إنفعالة غاضبة، قطب حاجبيه في وجه مستشاره وقال له منزعجًا: "بن عباد يدعي ظهور المؤيد ويطلب له البيعة".

****

يفتح مانويل عينيه فزعًا مستيقظًا من نوم عميق قبيل الفجر بقليل، فلقد راح في النوم منذ أن عاد من عمله مغرب أمس، وهاهو يصحو الآن، يغطيه العرق والشحوب، أخرجه شيطان القلق من سلام الوسن. أسند ظهره على الحائط وأخذ يستجمع شتات عقله، عند قلق النوم يصاب الإنسان بحالة تراخي لا مبالية غير قادر على حراك أنملة، إنتهى منها بعد وهلة، ثم جلب جهاز التحكم فأشعل التلفاز بلا هدف. كانت معدته تصدر صريرًا أدرك منه احتياجه إلى الطعام، قام فأعد بعض الغذاء، بعض من ذلك على آخر من ذاك، رفأ بهم وجبة طعام مثالية.

عاد ليتناول وجبته بينما يتصفح بيده الأخرى صفحة الفيسبوك الرئيسية لتلهيه لبعض الوقت حتى ينتهي من وجبته. أثناء تصفحه إذ به يجد صورة مشاركة من إحدى صديقاته الإسبانيات عن شخص في شمال المرية وجد كتابات غريبة على ظهر إحدى كراسي المواصلات العامة بالمدينة كتبت بلغة عربية لم يفهمها، وقد أنهى هذه الكتابات بجملة ختامية وهي"المؤيد حي". أنهى هذا الشخص منشورة بوسم "المؤيد حي"، فضغط عليه مانويل فحوله تلقائيًا إلى صفحة أخرى تحوي أى منشور قد حمل نفس هذا الوسم. فوجد أنه وسم ضئيل لا يتجاوز مستخدميه الأربعة أشخاص. وكل شخص منهم ناشرًا صورة مختلفة لكتابة "المؤيد حي" في مواضع عدة.

أثار الأمر شيئًا غامضًا في نفس مانويل، فهو أيضًا قد وجد ليلة أمس مثل هذه الكتابة على حائط الشارع المؤدي إلى منزله، فقرر إنه ربما يصوره اليوم في طريقه للعمل ويشارك به تحت هذا الوسم، ولربما يسأل عن هذا الوسم أي من أصدقائه في العمل.

يجتمع الناس مشدوهين أمام مركز التفاسير بشارع "نيكولاس سلميريون" فاصلين بينه وبين البحر المتوسط من خلف أظهرهم. عند مدخل المركز قد كتب بلغة إسبانية "مركز التفاسير التابع لميناء ألمرية" بخط بني مميز على خلفية صفراء داكنة، و هذا المركز يحوز على أهمية خاصة بين معالم ألمرية، حيث يأوي آخر الآثار المتبقية في المدينة، كما يتضمن باب الجدار الجنوبي للمدينة بالعصر الإسلامي، كان مانويل العربي الوحيد الذي يعمل بهذا المركز، وكان مانويل في بادئ الأمر ذا غبطة بالغة بوظيفته تلك، ربما قل هذا التهلل مؤخرًا إلا إنه إعتاد حياته في هذا العمل.

وقف عمال المركز أمامه ينظرون ومثلهم فعل المارة في الطريق، وقف معهم مانويل ليرى مايتفحصه هؤلاء القوم. عقله يراوده عن استنباط غير طبيعي.. "لا تكوني حقيقة"..
وقع نظره على اللافتة الأمامية للمركز، فإذ مكتوب تحتها بخط أخضر سميك "المؤيد حي".

***

في بلاط الزهراء، بعد أن خفت الضوء وسكن الناس، سواد مقيم تخف من سطوته بعض القناديل، يقف أبوالحزم بن جهور في دهليز من دهاليز القصر تسرب له بالكاد ضوء القمر، ساندًا رأسه على يمناه متدبرًا في دعوى بن عباد، أبو القاسم الأرعن يفكر أنه يستطيع أن يخيل علي بمثل هذه الأكاذيب، يريد أن يتمكن من قرطبة بستار المؤيد، ظل أبو الحزم في تدبره وشياطين عقله تحارب نفسه، حتى قطعها أحد خدم البلاط بعقد الهدنة.
-ماذا هناك؟
-مولاي، قد عرف أهل قرطبة بأمر المؤيد، وكانوا بذلك جزلون، اجتمع البشر على مبايعته و أعلوه إمامًا للجماعة، لقد كان هنالك إجتماعًا. إجتمع بعض أكابر قرطبة سرًا على أن ينشروا دعوى مبايعته بين الناس.

تجرع ابن جهور خبر أهل قرطبة بحيرة و ضياع، لم يكن ابن جهور بالشخص الذي يهزم بحركة دهاء ضعيفة، فإنه ما خاف ملوك الطوائف على ملكهم من الله كما خافوا عليها من ابن جهور، ابن جهور يقلب الأمر في رأسه بتمعن، الحموديون يطالبون بالخلافة، والشارع يريد المؤيد، أنا أعلم جيدًا أن المؤيد قد قتل، لقد سمعت بمقتله حين مات، وكذلك أيقن أهل قرطبة جميعهم، فأنى له أن يعود الآن وكيف لهم أن يميلون إلى مبايعته؟، ولكن أظن من الحكمة التصديق على ذلك الخبر وإن كان مغايرًا للحقيقة.

أرسل بن جهور رسله لإستقصاء أمر المؤيد وحينما عادوا له خاليي الوفاض، صدق أبو الحزم كذبًا على إدعاء بن عباد، ليدفع أيدي الحموديين وكذلك أهل قرطبة عن ملكه، شهادة زور لم يقع عن عاتقه وزرها إلى حين.

****

بعد تلك الحادثة لم يعد الوسم الصغير ذو البضع مشاركات صغيرًا كمان كان، فقد شغلت القضية الرأي العام الإسباني كله، جاءت الوكالات الصحفية والإعلامية لتغطي الحادث وتصنع عنه التقارير، "المؤيد حي" كلمة عربية كتبت على واجهة مركز التفاسير، اتخذ المحللون السياسيون من الحادث مرتعًا للعمل وجلب الرزق، اشتعلت منصات التواصل الإجتماعي بمشاركات ومنشورات وصور لحوادث مماثلة، من كان من الإسبان يرى الجملة فتمر عليه مرور الأكرمين، الآن يرفع قمرة هاتفه فيلتقط لها الصور وينشرها، مرتع المحللين يتضاخم، هذا ليس عمل مشاغب لبعض العرب المهاجرين، إنما هي حملة ممنهجة شملت إقليم الأندلس كله. في ليلة الحادث وأثناء إحدى برامج الرأى السياسية، عرضت الشاشة صورًا للكتابة صورت في مالقة وفي غرناطة وفي اشبيلية. داوم مانويل على متابعة الوسم من آن للآخر، ويرى أن الصور تتكاثر والحوادث تزيد، من وراء هذه الحملة؟. كتابات غريبة تضمنت المؤيد حي، كتبت على كراسي المواصلات العامة، حوائط المراحيض العمومية، جدران الشوارع الضيقة، وكأن هناك عاصفة رياح عتيدة تعوي تحت الأرض دون أن تحدث ضررًا.
دون أن تحدث ضررًا بعد.

الهروب هو أول الموت..

بعد أسبوعٍ من حادثِ المركز، وبينما كان مانويل يمارس عادتَه اليومية في الترجلِ من المركز إلى بيتِه، شاهد مانويل شابًا مُلثمًا يعطي ظهره للطريق متلفتًا من حين إلى آخر، يمسك في يده عبوةِ طلاءٍ سوداء يرُش منها على حائطٍ أمامَ عينِه في زاويةِ الطريق.
ثبُتَت قدمَا مانويل على الأرضِ من تحتِه، يكادُ لا يُدرك الناظرُ من الأكثر صلابةٍ بينهما، وقف مانويل بضعة ثوانٍ في رهبةٍ وصدمة، أيُشعره بوجودهِ أم يتوارى ليرى ما مصيره الذي سيئول إليه بعدما ينتهي من عمله هذا؟ قرر في عجلة قرار مختلف تمامًا. اقترب مانويل منه بعض الشئ دون أن يشعره بخُطى قدمِه، الشارع هادئ هدوء البرية، أبوابُ الدورِ موصدةُ و الشارعُ خلَى من الأرواح إلاهُ وهذا الشابُ الملثم.
لم يكن هذا الشاب الغامض مناوئ عن أى شاب غيره في المظهر أو الشكل، اللهم إلا في لثامه. فكان طويل بعض الشئ، له حدب خفيف، يرتدي كما يرتدي الشباب في نفس عمره. يدور في بال مانويل أنه وإن كانت الشرطة تبحث عن هذا الشخص لن يشكوا فيه إن رأوه أمامهم يعبر الطريق، وإن كان لهم المخفر بشخصه.
اقترب مانويل من الشاب حتى أصبح منه قابَ قوسين أو أدنى، هَم أن يضع يده على كتِفَه، حتى شعر به الشاب وأفلت الطلاءَ من يده والتفت إليه، تقابلت أعينهم لثوانِ معدودة ثم بدء العَدْو نحو الطريق المجهول.

في اليوم التالي وفي نفس الموعد تقريبًا ارتقى مانويل درجات السلم إلى داره بعد يوم عمل طويل في المركز وسط التحقيقات وحالة التأهب الأمني التي أحاطت به، دلف مانويل في ممر باعث إلى باب بيته، ثمة أمر غريب طرأ هنا، باب البيت لم يكن مغلقًا ومقبضه كان مهشمًا، تغشاه آثار الاقتحام، أسند مانويل يده على الباب فاتحًا، يفتح على حائط يفصل الممر المؤدي إلى غرفة المعيشة عن المطبخ، ينبعث المسهد تدريجيًا، تتصلب قدماه بالأرض من تحتها من هول الرهبة، تسقط على رأسه ضربة من خلف رأسه تفقده الوعي، يهبط جسده على الأرض متراخية، تصطدم رأسه الملكومة على الأرض وعيناه ثابتتان على الحائط وقد خط عليه ماقد خاف منه.

المؤيد حي.

يستجمع قواه المشتتة، عيناه محيط أحمر ملتهب، قلبه ينبض بقوة ساكنة، تنبه عقله الغائب بوجوب الوعي أو الفرار، يدور بخاطره الغائب في جب البرزخ أنه شيئًا لم جرى، و يديه المكبلتين ما أصابهما إلا خدرًا من طول المنام، روحه ذهابة أوابة بين برزخه وجسده.
يفتح عينيه بصعوبة ليواجه صورة قد رفض عقله التسليم لحقيقتها، قد علم أنه هو، علم أنه سيلاحقه، غبي لم يسلم بنفسه عن التدخل، لعن فضوله في جوفه، اللهم المنة واللطف.
ماذا تريد مني؟ قال مانويل مستنكرًا بلسان خوف، إعتدل الشاب في وقفته ثم أردف" أنت من سيُريد".

****

بأربع فاقت الأمصار قرطبة، يهيم بزهارئها الرجال وتتهافت عليها الأنفس، يأتي الملوك ويروحون وهي مازالت في زهوها الفتان، يمتطي الجنود جيادهم متأهبون لأي معركة تحوم، يجتمع الأهالي في الأسواق يتشاورون أمر الطوائف والملوك، تشيع بهم خبر صادق تارة ومزيف تارة أخرى، والمسلمون يصدقون، ينادي المنادي في سوق الحرير بأن الوزير استقصى وأكد أن المؤىد مازال على قيد الحياة، ونادى آخر أنه قاد جاءه -أي المؤيد- في منام وبشره بالنصرة وتمام الولاية، فصارت النار كالهشيم، و أشعلت العقول وألهبت الحواس شوقًا للوحدة الضائعة والمجد المنهمر تحت حوافر الخيل.

في جنح الظلام يسمع ابن جهور في أرجاء قصر الولاية صوتًا واحدًا يتردد، سكن الناس فأصبحت الأصوات مضخمة عن طبيعتها، ينشر الصدى الكلمات بين جدران القصر وكأنه جدول جاري يصطدم في الصخور والحجر من تحته. انتبه الوزير والصوت واستنكر وجوده في مثل هذا الوقت من الليل، وعندها راح الصوت ولكنه عاد يتردد وكان أكثر وضوحًا، فسارت في جسد الوزير رهبة كنها في نفسه ليست بادية، فأصغى السمع حتى بدا له ما ينطق به الصوت:

أسير الخطايا عند بابك واقف .. به وجل مما أنت عارف
يخاف ذنوبًا لم يغب عنك غيبها .. ويرجوك فيها فهو راج وخائف
فمن ذا الذي يرجى سواك ويتقى .. وما لك في فصل القضاء مخالف
فيا سيدي لا تخزني في صحيفتي .. إذا نشرت يوم الحساب الصحائف

كانت الكلمات تتردد كأنها ذكرًا صوفيًا اجتمع الدراويش فأنشدوه بلحن يرهب القلب ويمسك العقل، وماهي إلا برهات فغاب الصوت، ولكنه عاد ليظهر من جديد وكأنه بنفس غرفة الوزير، اشتدت الرهبة والرعب في قلب الوزير حتى أغشى عليه عندما التفت إلى الصوت فتهيأ له جسد المؤيد أمام عينيه.

****

-كيف وصلت لمكان داري؟ لماذا جئت مرة أخرى؟ ماذا تريد مني؟
-اهدأ يا مانويل! سوف ارحل ولن أصيبك بسوء، ما دمت تدرك ما جلبت لنفسك.
-ماذا جلبت؟ أنا لم أفعل شيئًا.
-مانويل، أنت رأيت وجهي ليلة أمس، أنت تعرف ملامحي وشكلي، وناهيك عن ذلك فأنت تعمل في مركز التفاسير أليس كذلك؟، ألم تعسكر الشرطة هناك، وتحوم بالتحقيقات على الموظفين من كل جانب. أظن أنك فهمت الآن.
أطرق مانويل إليه بلهًا، فهو لم يفكر في الأمر هكذا على الإطلاق، ولكنه أراد أن يصل معه إلى شئ ما في نفسه.

أردف إليه قائلًا: ولم لا تظن أني قد فعلت هذا مسبقًا اليوم، فأنا عائد الآن من المركز. فربما إلتقى طريقي بطريق أحد رجال الشرطة أو المحققين، أو على الأقل اجتمعت بزميل أو زميلة قد صلفت أمامهم بامتياز رؤية هذا المشاغب الذي عاس في كل مدن إسبانيا كاتبًا نقوشه المبهمة على جدرانها وحوائطها.
سكت الشاب، تحرك بضعة خطوات ناحية التلفاز فأشعل ضوئه، فخرج منه صوت مذيعة أخبار محلية، انشغلت في بادئ الأمر بقضية المؤيد، وقد استضافت عندها خبراء تاريخ ومحللين سياسيين، للتمحيص في ماهية المؤيد وماهية الحملة التي تزعم حياته.

قال لها أحد الضيوف أن هناك أكثر من إحتمالية لحقيقة المؤيد هذا وحقيقة من وراء تلك الحملة، فتابع بأن هناك شخصية تاريخية مألوفة للمطلعين على التاريخ الإسلامي في إسبانيا قبل سقوط الأندلس بعقود طوال، تدعى هشام المؤيد بالله، وهذا المؤيد يعود في نسبه إلى عبدالرحمن الناصر بالله، وقال أن المؤيد بالله كان رجلًا على سعة علمه ومعرفته إلا أنه كان ضعيفًا مهزوم الرأي، فقد على عليه في حياته وعهده الحاجب المنصور بن أبي عامر وسيطر على مقاليد الدولة، وجاهد بالجيوش وانتصر وكان له الفضل جميعه، وأصبح يطلق الأوامر ويختم المراسيم، ولا كلمة للمؤيد إلا على نفسه، فرحل المنصور وجاء ولي عهده عبدالملك ورحل وجاء بعده أخوه عبدالرحمن والمؤيد على حاله، حتى طالبه عبدالرحمن بالتخلي له عن الخلافة، وراحت الأيام وخُلع المؤيد من الناس وبايعوا محمد بن هشام المهدي، و اختفى وأمه ثم عاد مرة أخرى ليحارب وينتصر بجوار المهدي ضد سليمان بن الحكم، و بمؤامرة دبرت سقط وقُتل وصار المؤيد خليفة المسلمين مرة أخرى، بعدها أراد سليمان أن ينتصر لنفسه فأغار على قرطبة وعاث فيها فسادًا واغتصابًا، فأشيع بين الناس ،بعد هذه الغارة، أن المؤيد قد قتل وضاعت سيرته، إلا أن هناك وبعد بضعة عقود من ادعى أن المؤيد حي وطالب له بالخلافة. إلا أنه لم يظهر حقًا.

هراء! بادر الشاب.
نظر إليه مانويل مستفهمًا، أراد أن يسأله إلا أنه أبقى محافظًا على الحاجز الضمني بين الصياد وفريسته.
ما قصة هذا المؤيد، ولماذا تنقش هذه النقوش. هل ما حكاه هذا الخبير عن المؤيد ليس بحقيقة أم أن ماتقصده أنت مؤيد آخر.

تظهر على الشاشة صورًا لحالات ظهور النقوش في بعض المدن العربية كفاس والدار البيضاء وتونس والإسكندرية، ينظر له مانويل مرة أخرى وفي عينيه شيء من الوجل، من أنتم؟ كيف وصلت إلى هناك؟ ماذا تريد مني؟

ادعى الشاب أنه لم يسمع بالخبر الأخير وأجاب عن استفهام مانويل الأول: لا هذا هو المؤيد إلا أن خبرة هذا الخبير لم توصله لحقيقة أن المؤيد حي فعلًا، عكس مايظن المؤرخين والخبراء والناس، المؤيد عاد وحي، وأثره حي إلا الآن.

- ماذا تقصد؟
- أنت موهوب في مضيعة الوقت. الآن اصمت وتعال معي فلا وقت لدينا.
-إلى أين؟

منع الرجل بصره بغشاء أسود وجره إلى سيارة منتظرة في أسفل الدار.

***

كلف ابو الحزم رجلين من أتباعه قص أثر هشام المؤيد، ماذا حدث له بعد دخول سليمان بن الحكم، هل قتل؟ هل اختطف؟ هل هرب؟ هل ابتلعته الأرض بشهيق منها، أم رفعته السماء بجانب الأكرمين؟.
-اعرفوا لي أين ذهب هذا الرجل؟ ما مصيره؟

عاش ابو الحزم عشرين يومًا في وجل، لا تغفل عينه ولا يهدأ باله، حتى جاء له رسله بالبيان، تكلم أحد الرسولين:
-ياسيدي ما يعرفه العامة من الناس عن مصير هشام المؤيد أن سليمان بن الحكم قد قتله قبل أن يسقطه عن الخلافة، ولكن هناك من يشير أنه قد هرب ،قبل دخول سليمان قرطبة، هو و أمه إلى ألمرية هربًا من بطش ابن الحكم.
-من صاحب هذا الرأى؟
-فتى من فتيان الصقالبة المتبقين في المدينة.
-آتوني به، الآن!

جمع ابن الحكم عقله المشتت الهائم، واستقر به إلى الذهاب خفيةً لألمرية، ربط الرجل أماله كلها بخيط واهن و ودعه يجذبه كما يشاء، في ستر الظلام غذ ابن جهور خطوه وسحب فرسه وانطلق به جنوبًا إلى ألمرية ومعه الفتى الصقلبي بعد أن ووعده بمكافأته.

ينجلي البحر أمام الوزير وتظهر أمام عينيه بيوت ألمرية البيضاء المتداخلة محتضنة بعضها بعضًا، ينظر لها الوزير وقد خيم الندى على وجنتيه المتوردتين فأزادهما لمعانًا وبريقًا، ركل فرسه فانطلق به إلى قصبة ألمرية، حيث دله الفتى.
تقف القصبة مودعة مرحبة بكل آت وآب إلى باب الأندلس الجنوبي، حصنًا مفخمًا في شمال المدينة يقف بجدرانه المرتفعة وسياجه العالي، يحدث البحر عن أيامه، كما يجلب له البحر موجًا من هموم العباد.

من باب جانبي من الجهة الشرقي دلف الرجلان متباطئين، مر الفتى بالوزير في ممر ضيق إنحرف بعده إلى اليمين ومنه إلى باب جانبي أغلقه الوزير خلفه بتروٍ، ارتقى الرجلان درج ملتوٍ يتردد بين جنباته كلمات تكاد تكون مألوفة لمسمع ابن جهور، أسير الخطايا عند بابك واقفًا.. يرتعد قلب الوزير في مكمنه، يرتجف وتهتز خطوته متابعًا السير خلف دليله حتى وصل لساحة ضيقة تقابل ثلاثة أبواب متواجهة، أيقن أبو الحزم أنه على بعد خطوات من اليقين، على وشك لقاء الحقيقة، بتؤدة فتح الفتى الصقلبي الباب الأيمن و ودع الوزير يدلف أولًا، خطى الوزير مرتجفًا وكاد قلبه يخرج من قفصه، دخل ومن خلفه الفتى وإذ به يحبس أنفاسه ويسيل العرق من جسده كجدول يبلل لحيته وإزاره..

-إنه هو!
***

رفع الشاب الملثم الغشاوة عن عيني مانويل، يرفع عينيه وقد اعتاد الفزع، يقلب نظره في الغرفة ليفقه مكانه، غرفة واسعة بعض الشئ بنيت من حجر كبير متآكل أصفر اللون باهته، لها أربعة جدران متعامدة علق عليها قناديل قديمة إحداهما مشتعلة،
كتب بخط متعرج على الحائط المقابل لعيني مانويل بيتين لا يكاد يفقه أصلهما:

وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما.. يصد ذوو القربى ويجفو المؤالف
لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي .. أرجي لإسرافي فإني لتالف

استنكر مانويل أساس ما قرأه، لا يعلم ما هو وما الغرض منه، فما يأس إلا وتوجه بناظره إلى وجه الشاب الملثم، وقد فك لثامه فرأى مانويل شكله بتمعن هذه مرة وكان وجهه طويلًا، ذقنه ذو طابع حسن خفيف، شعره طويل قد أناخه خلف أذنه، أنفه معقوف مدبب الطرف، ينقصه التوجة وإكليل الغار حتى يصبح نبيلًا رومانيًا أصيلًا.

-هنا يا مانويل، هنا، هذه الجدران تعرف الحكاية كلها، هذه القناديل لم يطفئها سوى الحقيقة، كان هشام المؤيد بالله ضعيفًا كما قال الخبير في التلفاز، رخوًا سهل المنال، بعد موت أبيه سَلَّمَت أمُهُ عرشَه مع قلبِها للحاجب المنصور بن أبي عامر، فحكم بدلًا منه وأصبح المؤيد أسيرًا في قصره، وتوالى أبناء المنصور من بعده والمؤيد على حاله، وشاعت أقاويل بين الناس أنه فسادًا نهاكًا هتاكًا للحُرُم، و قال آخرون أنه كان عالمًا محبًا للمعرفة والعلوم صالحًا كثير العطاء، ولكن الناس لا تتذكر سوى القبيح، أطلقوا ألسنتهم في حقه وحاله، ذهب ورحل، ثم حل وجاء تعاون مع ملك قشتالة ليعيد له ملكه المسلوب، سلم له الحصون والثغور، المئات منها، منافذ المسلمين للشمال، دفع لملك برشلونة مئة دينار من الذهب لكل يوم قتال، ودينارًا لكل جندي من جنده، لم يكن رخوًا فقط بل كان خائنًا، وصمه الناس وأهانوه، تنازل عن شرفه من أجل حكمه، تملك الأرض من بعدها، ولكنها لم تدم له، فدخل سليمان بن الحكم وحرق في قرطبة وقتل أهلها كما أشار الخبير، إلا إنه لم يقتله.

فرد عليه مانويل: ولكن ما الذي فعله به؟

تابع الشاب: المؤيد هرب. أخذ أمه على ظهر برذون قد كان له من أراجون وهربا، الهروب هو أول الموت يا مانويل. اعتمد في هربه على أحد الفتيان الصقالبة وهم فتيان قد متن أبوه صلبهم فكثروا وازدادوا وعلى صوتهم وزادت سطوتهم، ولكن مع حكم الحاجب المنصور قل عددهم وقوتهم، كان لا يعرف أين يذهب شمالًا أم جنوبًا، شرقًا أم غربًا، لم يكن له ولي من قبل ولم يكن له نصير. حتى هداه الفتى للجوء إلى ألمرية، حل الرجل مشردًا هائمًا لا غاية له ولا مصير، رأى البحر أمام عينيه وهو قبلة الهائمين مشردي النفوس، ورأى السماء ورفع إليها ناظريه فدعى قبلة القلوب جميعها، هائمة ومستدلة، دعاه الرشاد بعد ضلال، دعاه الإيواء والملاذ.
-ولكني لا أفهم لماذا كتبت هذا على جدران ألمرية، وفعل مثلك بعدها الكثيرون؟
- كنت أريد أن ألفت انتباه ألمرية، انتباه إسبانيا، انتباه العالم كله.
-لما؟
-رأت هذه الجدران المؤيد وهو مرتعد خائف كليل يا مانويل، خف عقله وارتقى قلبه إلى درجة من درجات الزهد والتخلي والاستغناء، اعتكف في منفاه وتقرب، ظل الجند ممن يحرسون هذه البقعة يرتعدون في مرابطهم وجلًا من صوت ينتشر في أرجاء المكان في كل ليل ينشد ذكرًا مقفًا إلى الله، يتردد بين الجدران فيرعد صداه قلوب الجنود.
يعتقد بعض الصوفية أن بإمكان المخلوق إذا تقرب ووصل إلى مرتبة معينة من درجات القرب أن يخف قلبه وترتقي روحه ويلين جسده فينتقل ويجوب الأماكن وهو لم يبرح مكانه، يرى مالا يراه غيره، ويعلم من الله مالا يعلمه غيره من القلوب الأكثر تعلقًا والأقل زهدًا. يقال أنه وصل لمثل تلك الدرجة من القرب، فسافر بصوته وجسده، رآه أبو القاسم بن عباد حاكم إشبيلية تحدث معه و اتفقا، بعث بن عباد مكاتيبه إلى ملوك الطوائف يدعوهم لبيعة خليفة المؤمنين والأندلس هشام المؤيد، لم يبايعه سوى بن جهور خليفة عرشه، رآه بن جهور في داره وقد جن الليل وغشي الناس، سمع صوته يتردد في القصر ثم أغشي عليه.

-وهل بعد كل ذلك عاد ليحكم الأندلس؟
-لا ولكنهم ظلوا يروه من بعدها. لم يهدأ بن جهور إلا إن تتبع أثره حتى جاء له هنا، ولكنه سمع صوته فقط.
فسأله مانويل متأهبًا: و ماذا قال له؟
صمت الشاب للحظات وأطرق فيما وراء مانويل، حتى انبعث صوت توقف له قلب مانويل:

أسير الخطايا عند بابك واقف .. به وجل مما أنت عارف


*قاعدة أولى في عرف القراءة، لا تجني ثقافتك المعرفية والتاريخية من القصص والروايات.

**القصة يشوبها تاريخًا ووقائع حقيقية وأخرى مؤلفة لخدمة القصة ليس إلا.
*** الشعر يرجع إلى الإمام الثقة أبي الوليد عبد الله الأزدي بن الفرضي (٣٥١م:٩٦٢م)

تعليقات

المشاركات الشائعة