مسيرة المجوس الثلاثة



حارس النهر

من المُمكن أن يعيش ابن آدم مئة عام ويموت دونما يتعلم من هذه الحياة شيئًا واحدًا، وفي الجانب الآخر قد يعيش عشرين سنة فقط وقد كسب من الدنيا وذاق الكثير. فكل شئ في هذه الدنيا قابل للتعلم، فالقراءة والكتابة والصيد والقتل والطبخ و الفروسية وغيرها تستطيع أن تتعلمها بالممارسة، إلا الشعور، فأنت لا تتعلم كيف تحزن أو تفرح، كيف تضحك أو تنوح، كيف تحب وتعشق وتشتاق، يجب أن تجرب.

يتفتح الزهر من برعمه وقد غشاه الندى، يطل عليه السلطان الملك من شرفة القصر بإزار حريري مشف، أرقه سُهدٌ لا أصل له ولا سبب، تعتلي من مذياعه أنغام ”مسيرة المجوس الثلاثة“، يطرق في الفضاء منتظرًا لا شئ، برهة صامت و أخرى يحرك شفتيه مع كلمات الأغنية الفرنسية، ينظر خلفه يرى زوجته قد تدلت مستلقية عارية على سرير يغطيه الحرير ويحجبها ستار قرمزي مطرز، كان هذا الملك يدعى بطرس، وهو ليس مسيحي كما قد يوحيه الاسم، ولكنه احتفظ باسمه على أية حال.

مرتاع قلبه حيال الوجل والذعر اللذان يحيطان بملكه هذه الفينة، أجمل به أن يموت فيه هذه اللحظة على أن يستمر بين عقله وقلبه اللذان اقتتلا على أن يحرماه طيب الوسن وراحة البال، فصباح اليوم ستكون المحاكمة، سيقف أمام قضائه سمعان أحد الرجال الذين خططوا للفتك بملكه والإيداء بحياته، ”ثم على عربة موشاه بالذهب من جميع الجوانب .. يرى ثلاثة ملوك من بين الرايات النجم يتلألأ“، يخلع عنه إزاره الذي قد فضح قدرما ستر من سوأته، وارتدى زيه الملكي، زي السلطان المعظم، حارس النهر الخالد وحامي الحياة، يقف أمام مرآته يوثق حزامًا من القماش على خصره حازمًا به خنجرًا مرصع بالياقوت القرمزي والأزرق، تتردد خطواته بين مهابة ووجل خارج غرفته، دالفًا في دهاليز القصر هابطًا الدرج نافذًا من بوابة القصر التي نقش أعلاها اسمه بالذهب بخط متداخل ”السلطان بطرس حارس النهر“، اعتلى الملك برذونه -وهو فرس من أصل غير عربي- وهبط به من القصر متجهًا إلى ”المَهْذَبة“، وهو الليمان إلى أنه بدّل اسمه بالمهذبة إنعكاسًا لرؤيته عمَّن خلفه في مُعاقبة المخالفين.

لَكَز حارسُ المَهْذَبة صاحبه مُنبهًا، فاستَقَام كلاهُما باعثان ناظريهما إلى مرمى بعيد يشاهدان السلطان الملك في جوفِ الليلِ بدون حرس أو خفر، بدون رايات أو أبواق، فتح الجندُ له الباب الكبير وذهب قائد الحرس فزعًا في إستقباله وقد زين وجهه بابتسامة متكلفة مداريًا بها دهشته وارتعاده، من بعد ذلك اسلم القائد إلى رغبة السلطان في الاختلاء بـ"المُسْتَهذَب" سمعان، المتهم بمحاولة اغتياله والانقلاب على العرش، حاول القائد أن يدع معه أحد الحراس داخل غرفة الاحتجاز إلا أن السلطان الملك أصر على الإنفراد به.

دلف السلطان بطرس إلى داخل الغرفة، أقام سمعان ظهره وأسنده على الجدار من خلفه ونظر إلى بطرس بعينين لا يختليين من الزهد.
-مرحبًا ببطرس السفاك.
ذُهل السلطان الملك لما دعاه به سمعان: ماذا قلت؟
-بطرس السفاك، بل أزيدك من الشعر بيتًا، مرحبًا بطرس السفاك مخثر النهر.
-أنت تدرك بأن بمقدرتي أن أحكم عليك في هذه اللحظة، لادقيقة بعد الآن، بل اللحظة بالعذاب حتى الموت؟
-نعم أدرك فهذا عين سبب ماقمت به من الأساس.
-كيف تتحدث بهذا الاجتراء؟ هل أفقدتك المهذبة عقلك؟
-لا، بل الفناء فعل، حكمك قد سرى علي من قبل أن ينطق، لا رادع لك عن موتي سوى الوقت والكلم، إنما أنا فمحكوم علي بالموت من قبل أن أقوم بما قمت به.
-حديثك نبيه، يتضح أنك رجل فطن، وعلى كلٍ، فأنا هنا لست لأحاسبك، وقد يحتمل عطفي مغفرة ما اقترف لسانك من جرم في حقي، إلا اني لن اسمح بهذا ليحدث مرة أخرى أثناء حديثنا هذا.
-عفوك جميل عكس طبعك، ولكن مما الذي جاء بجانبك المفخم إلى غرفة احتجاز المهذبة متفانية التواضع؟
-لماذا قمت بما قمت به؟
-ولماذا تسأل؟
-كيف تصور لكk نفسك أنك قادر على توجيه السؤال لي؟
-قلت لك مسبقًا الفناء، أنا شخص ميت، لا حجة علي ولا كتاب.
-أجب فحسب، توقف عن جدالك المتخايل.
-من أجل الإنصاف.
-إنصاف من؟
-إنصاف هؤلاء الناس الذين طالهم طغيان سلطانك.
-اسمع يا سمعان، أنا هنا ليس لاستجوابك ولا للتحقيق معك في جرم أنت مدرك عقابك فيه، فأجبني واسهب في ادعائك لعل لدي حجة، ولربما أعفو عنك.
-ماذا تريد أن تعرف؟
-لماذا حاولت الفتك بي؟
-لأنك ظالم، سفاك للدماء، وليتها دماء أعداء أو بغاة، إنما هي دماء أهلك ملأت بها مياه النهر حتى تخثرت، ومع كل هذا فشلت في إخراج العدو من تخومنا، أنت المثال الحي لأي سلطان جائر، ومصيره الموت لا محالة، ولكنه فقط المقابل.
-أتراني بهذه الدموية؟
-بل ألعن. أيها السلطان المفخم، هل جربت مرة أن تنزل بين يدي الناس عاسًا ترى كيف منهم من لا يعود إلى بيته آخر الليل فيأوى بأي جنب من جنبات الطريق خشية النظر إلى عين أبنائه وزوجه بعدما فشل في اكتساب أي رزق؟، هل تعلم كم جندي قد أخذ رأسه بارود العدو القابع بتخومنا دونما حراك بنت شفة من جنابكم المبجل؟، هل وصل إلى مسمعك المكرم الخمسين الذين ماتوا منذ قمرين غرقًا في النهر ولم يعلم أحدًا عن فنائهم إلا بعد شهر كامل؟. أنت لا تدرك شئ. أنت تعيش في مهذبة عقلك المرصع بالذهب والياقوت والقهرمان.
تحول وجه بطرس وقد غشاه حزن أزاد عينيه الحمراوين همًا ومقتًا، ثم رد: هل أُدان على كل هذا؟
-ومن دونك؟
هَمَّ السلطان الملك بطرس بالإنصراف بتؤدة، وقد أناخ الهم وقلة النوم ظهره وكلله التعب، ثم التفت إلى سمعان مرة أخرى ثم قال له: في صباح اليوم أيًا كان حكمنا عليك، فلك طلب محقق، فاحسن استغلاله.

أُغلق باب الإحتجاز من خلف السلطان الملك وقد غذ خطاه خارجًا من المهذبة، تمالك ثقل رأسه حتى اعتلى برذونه عائدًا إلى قصره وقد علَّه الفكر والإنهاك.
سمعان

عاد سمعان إلى حاله الذي كان عليها قبل زيارة بطرس السلطان، لم يعطِ الكثير من الأهمية لتلك الزيارة، ولكنه على أي حال لا يدرك مغزاها ولا يدرك ماذا حل بالسلطان ليظهر مغشيًا بهذه الرأفة والحُلم الغير مببرين، عاد سمعان إلى حاله ولكن متروك في نفسه شئ من الدهشة والذهول. اضطجع على جنبه بلا وسن قد زار عينه ولا ألم قد طغى على محياه، إنما الأفكار هي التي أخذت ترتاد عقله بلا هوادة وهو الميت المقتول.

كانت الخطة متقنة، حركة شعبية سرية، تكونت من سمعان وثلاثة أخر، أولهم قائد الحركة وهو أحد المشاركين في العملية وواضع خطتها ويدعى شاهين، والثاني والثالث أحدهم صياد من صيادين النهر والآخر تاجر ملح يدور يومه وحياته بين السوق والميناء، وآخرهم سمعان أحد أمناء المدينة، والأمناء هم مجموعة من المعلمين الشباب لكل خمسة منهم كُتاب يتعلم فيه الأطفال، وفي المدينة كلها خمسة كتاتيب كبيرة وخمسة أخر صغار في الضواحي النائية، تكونت هذه الحركة بعد غرق الخمسين صياد في النهر، يخططون -منذ مايقارب الأربعة أشهر- اغتيال السلطان الملك بطرس حارس النهر، مهما كانت الخطة متقنة إلا أنها فشلت على أية حال، ولكن كان زبانية السلطان أسرع وأكثر علمًا من هواة الحركة المناضلين، هربوا جميعهم القائد والصياد والتاجر واعتقل سمعان وحده.

يهيم الوقت بسمعان حتى غفى واستيقظ على اصتكاك باب الإحتجاز يفتح من جديد ويرى في مستوى عينيه أحذية الجند تتقدم نحوه وتنفرج أقدامهم فيظهر من خلفهم قدما قائد الحرس، يحملونه من مضجعه ويغشي أحدهم وجهه بكيس قاتم السواد اكتسب رائحة كريهة، ولكن سمعان سمع القائد يأمرهم برفع الغشاء عنه حتى تكون عينيه الجزء الوحيد الحر منه.
اقتاد الحرس سمعان من العربة إلى ساحة العُقاب، أعاد السلطان بطرس إعادة صياغة إسم هذه الساحة، بعدما كان اسمها ساحة العِقاب تفرسًا بأن حكمه هو العُقاب الجارح الذي يفترس أرواح المنحلين و الخارجين العفنة. يفكر سمعان في الاسم وهو ثاوٍ على ركبتيه ينتظر عُقابه الجارح، يقول جانبًا: ”بيد أنه سفاك، إلا إنه لم يخلو من فلسفة شيقة في الحكم، الويل له“. في قميص من الكتان المهترئ الممزق يجلس سمعان منتظرًا في خيلائه التي لم يفقدها وقد جاهد محافظًا عليها، تُنفخ الأبواق صادحة معلنة قدوم السلطان الملك بطرس، بعزٍ رفع ناظره إلى مرمى قدومه فرآه وقد اختفت سمات الأسى التي قد أشابته فجر اليوم عند زيارته، يصمت الناس في وجل حتى يستوي السلطان على عرش القاضي مجابهًا مجلس سمعان، تنتهي الأبواق من صداحها فينفجر الناس في جلبة غير مفهومة مضمونها تأييدًا لذات السلطان الملك، وحالما انتهوا حتى صدح فيهم بوق سمعان الذي انتفخت عروق وجهه ورقبته:

الشمس بعد اليوم والقمر يحويهم الفلك
ويرحل الليل ويأتي متى الغسق هلك
حتى لو زهقت اليوم نفسي وقاتلي الملك

عصًا غليظة قد صكت في كتف سمعان أوقفته عن الصياح، انكمش في ألمه وقد ازداد وجهه احمرارًا، وشرع بعدها الملك في الحديث:

”نبدأ باسم السلطنة ومليكها وسلطانها بطرس حارس النهر، في هذا الزمن يموت الناس من حولنا في كل ليل، تنجلي السماء بضباب شكلته أرواح القتلى والضحايا وريثما الشهداء، ونحن شهداء عليهم بإنهم وإن قتلوا تضحية أو عقابًا إنما هم أرواح يجب أن يقدس أثرها، فنحن اليوم أيها الجمع نشهد محاكمة سمعان هذا الجندي في جيش صغير سعى لقتلنا والرقص فوق دمائنا، وربما له حجة يقابلني بها وربما كانت كائدًا، إلا إنه روح. إني أعلم بما جنت أرواحكم من طوائل يدينا من الشرور والآثام، وأنا بشر غرق في ذنوب ماضيه حتى كبلت هي قدمي فلا أستطع تجاوزها إلى عدل المستقبل، فكلنا مصفد بمعاصيه، إلا إنني هنا أعترف، أعترف لك يا سمعان الكريم أنك لست مذنبًا ف كل شئ، وماكنت تفعل ما فعلت إلا لشئ مني لك في نفسك، أعترف لكم يا أهل هذه المدينة أني قد أخطأت من قبل ولم أتبع في حقكم سبيل الرشاد إلا أنني وفي مشهد العُقاب أقف بين أيديكم جميعًا أعترف بما اقترفت وماجنيت. إلا إن هذا لا يغير من حق العُقاب في الإقتصاص من شئ، فحق الجوارح قائم، فلكل مذنب مشهد محاكمة، ولقد أذنب سمعان في حقنا بأن يتآمر وصحبه علينا فينهيها دونما محاكمة أو حق لعُقاب، ولها -وأنا سلطان هذه السلطنة ومليكها وقاضيها- آمر بقتل سمعان على المقصلة فيكون للآخرين من المتآمرين عظة وحكمة إلا أنه -من إدراكنا لماقد فعله مما يتسق مع أغراض نفسه وشهوته ومما قام به من وخز إدراكنا لما سهينا عنه من المهام- فإنا نعطيه منا -رحمةً ورأفةً- طلبًا لا يرد له فهو مجاب، فانظره يا سمعان ولاتكن متحاذقًا سفيهًا فاحسن استخدامه“.

وفى له السلطان بكلمته فحانت لسمعان الكلمة: ”ياقوم، أنا سمعان بن حُريّا الأنجدي، أمين كتاب المدينة، سيزهق اليوم روحي ولا أبالي، وستموت الليلة معي آمالي وآحلامي، سيموت مابنيته وما اكتنزته لنفسي، سيموت معي قلب أمي وروح أبي، ولكننا سنموت جميعًا. يا قوم، والله مافعلت مافعلت إلا لتذكرتكم، ولقد أتيت مرادي، ويا أيها السلطان، لقد حكمت على نفسي حكمك منذ أربعة أشهر بل من قبلها، منذ رأيت الناس تقتل من حولي بلا تؤدة أو هوادة، ولكنني اليوم راضيًا تمام الرضا، فالصلاح الصلاح، ولأمر الطلب الذي عرضتموه علي رحمة ورأفة، فإن لي حاجة أريد أن أقضيها وأمور لا بد أن أتدبرها وأهل أريد أمانهم، فأطلب منك السماح لي بشهر من الحرية قبل تنفيذ الحكم عليّ أكون قد أنهيت ما علي في هذه الدنيا“.
رد عليه السلطان وقد اختلج مُحياه بابتسامة متهكمة: ”قلت لك أن تتحلى بالذكاء ولا تكن متحاذقًا كيف نسمح لك بالحرية وينتظرك عُقاب الموت مترقبًا، لا تغريك حماقة غرورك عن طيب كرمنا“

فقال له سمعان : سيكون بين يديك صديق شبابي وعمري، بكر الأعمش، ضمانًا مني لك برجوعي بين يديك مرة أخرى.
اندهش بطرس السلطان لمقال سمعان، فصاح بنفسه في الناس بأن يخرج من بينهم بكر الأعمش.

بكر الأعمش

يغالب بكر دموعه بين الحضور وقد غشاه الألم لأوان فراق صديقه، تتدرج بين عينه الأعوام تباعًا وذكريات قد جرت واتفاقات طفولية متحمسة قد عقدت بين الصديقين في أطوار مختلفة من عمرهم، كان الأعمش وقد كان أمينًا وسمعان بنفس الكُتاب يُعلم مجموعة أخرى من الأطفال، يتشاركان في القبيح والطيب، يأكلان معًا ويعملان معًا و يسهران معًا، إن بحثت في ميزان أحدهما فستكل للآخر به نفس المكيال، يطوف بخياله خروجهما للصيد مرة وحادثة غرق سمعان، يتذكر مشاجرة اشتعلت بين سمعان وريس الميناء حينما رفض طلوعهما على المراكب مرة أخرى، انفجار سمعان بالبكاء وقتما سمع عن غرق خمسين صيادًا في النهر وقد غلبه الاكتئاب والنزوح عن البشر من حينها، يسمع بكر حديث السلطان وقد انشغل قلبه بصاحبه وخلجه الهم والفزع متى سمع حكمه عليه، يسمع اسمه ينطق بواسطة صاحبه فيتقدم للأمام من قبل أن يجهر الملك بالنداء عليه، حتى إذا نادى اكتفى سمعان بالرد: أنا هو، فنظر إليه السلطان سائلًا: وهل تجيب سُئل أخيك؟
-بلى بروحي ودمي.
-وهل تدرك ماتقول؟
-بلى.
-أتدرك أنه إن لم يعد هنا بعد شهر فيسحكم عليك بالإعدام بدلًا عنه؟
-بلى أدرك بل أطلب أن تقتلني بدلًا عنه حتى وإن عاد.
ابتسم الملك عجبًا ثم نظر في الجمع وضحك: انظروا قدر الإخلاص يا معشر المدينة، اعلم يا هذا أنه وإن لم يأت صاحبك فستقتل أنت وسيطارد هو حتى يقتل، واعلم أنه وإن جاء بعد الشهر المحدد بيوم واحد ستقتل أنت ومن بعدها هو سيقتل. ولن تفيدك تضحياتك المثالية تلك إلا شقاءً.
لم ينتظر السلطان ردًا من الأعمش ولكنه أمر بفك أصفاد سمعان وإطلاق سراحه وتكبيل الأعمش بها وكلفهم باصطحابه إلى عربة المهذبة وألزمهم بعدم الحراك حتى ينفض الجمع، فراح الحراس ينفضون الناس بعصيهم كالذباب، وراح سمعان لصديقه شاكرًا مقبلًا وقد تقابل جسديهما واجتمعت أرواحهم في فلك لا يطوف فيه حس السلطان، التقت عينيهما وقد اختلط دمعهما، ربت الأعمش على عضد صديقه، ثم افترقا، شاهد السلطان من بعيد عناق الصديقين فاستمر وجهه في حزنه وركب فرسه ورحل.
انكفأ الأعمش في غرفة الاحتجاز حالًا محل صديقه الغائب يدعو الله له السلامة والأمان في رحلته، وصاه الأمان قبل أن يساق إلى المهذبة على أهله وأمه حتى يعود لهم، وقد زادت مهام سمعان مهمة أخرى إلى مهامه، قال بكر جانبًا: ويحك يا سمعان لقد نازلت الدنيا فغلبتك وأنزلتك منازل الموت والدمار، ماذا سيحل بك ياصاحبي؟، عسى البحر أن يعطف موجه على جسدك فلا يرهقك، وعسى الشمس تذيب البرد من عظامك فتنعم بدفئها، وعسى أن تنجلي الأرض بين قدميك فتجول سالمًا. 

انتظر بكر في مهذبته أربعة أسابيع، حتى حل آخر يوم في الأسبوع الأخير فجاءه مرسال داعٍ للحضور بين يدي السلطان الملك. خنع بكر الأعمش لأمر السلطان بموجب التبعية، فدخل قصره الملكي وقد حل الجند منه أصفاده منذ أن خرج من المهذبة بأمر من السلطان الملك، رفع ناظره حتى وجد أعلى البوابة مخطوطة من الذهب قد كتب فيها ”السلطان بطرس حارس النهر“، رمى بكر نظره إلى حوش القصر الفسيح والحدائق على جانبيه تشغلهما التماثيل و النوافير، في نهاية الحوش وقبل سلم القصر وقف تمثال لامرأة بيضاوية الوجه لها فم نحيف وأنف منمنم وعينان ضيقتان تزرف من جانبيهما الدموع بشكل متواصل، لمح قائد الحرس ذهوله فبادر ”هذا التمثال يعود لنيوبي وهي في الأسطورة الإغريقية أُمًا لسبعة أبناء وسبع بنات، ولسببٍ نظر العُقاب لها متربصًا فأخذ بأرواحهم كلهم، فظلت تبكي عليهم حتى احتالت إلى حجر لا يتوقف دمعه أبدًا، فهذه المرأة تجسد -على حد وصف السلطان- قدر شكوى قلبه وعذابه، فجعلها نائبة له عند مدخل القصر“.

استأذن قائد الحرس للدخول إلى حضرة السلطان، بعد برهة أذن لهما السلطان بالدخول، ثم أمر القائد بالإنصراف، فأذعن لأمره، فجهر مناديًا على الأعمش: كيفك يا بكر؟، التفت بكر وقد جال بعينه في الغرفة في سرح، فوقع بصره على السلطان وكان ثملًا مرتديًا إزاره الحريري وفي يده قدحًا من النبيذ الأبيض، طالت لحيته وشعث شعره وبري ناحله، لم يستطع أن يخفي استيائه من مشهد السلطان إلا إنه رد عليه في خنوع: حالي حالان، فأنا بخير وأما صديقي لا يعلم حاله إلا الله. 
-أنت أيها الرجل الشاب يعجبني إخلاصك، الإخلاص، يسعى المرء في حياته إلى وجود الإخلاص والأمل و الحب، يتطلع إلى الصداقة والزواج والبناء والعزوة، ينظر إلى الثقة والأمان.
لم يدرك الأعمش بما قد يجيب السلطان، إلا إنه أومأ بالإيجاب من ثم بعد لحظات صمت، شرع بكر بالسؤال: لماذا جئت بي إلى هنا يا سيدي؟
-ستصدقني عندما أخبرك أني لا أدري.
لاحظ السلطان الدهشة على مُحيَّا بكر، فقام وتقدم نحوه وقال له :اتبعني، توجه بطرس مترنحًا إلى أقصى الغرفة بجانب شباك يطل على تمثال نيوبي ومدخل القصر، أعاد ملأ قدحه بالنبيذ ثم عرض واحدًا على بكر الأعمش فتمنع في بادئ الأمر إلا أنه رفض بعد نظرة من بطرس تفيد بأن كيف تعيد يد الملك؟، أقام الملك ظهره بعد أن تجرع قدحه كله مرة واحدة، فقال لنديمه: هل تظن سمعان يعود؟، فأطرق بكر في خياله ثم أجاب: لا أعلم، ربما..ربما أصابه أذى أو قطع طريقه مكروه. 
هز السلطان رأسه ثم رفعها مشاورًا إلى لوحة على يمينه مُعربًا: أنظر يا بكر إلى هذه اللوحة، تلك اللوحة هي النسخة الأصلية منها، هنالك عديد من القطع ذات الرسم نفسه إلا هذه هي ناتج يد صانعها دونًا عن الآخرين، أتعرف عما تعبر؟
-لا ياسيدي السلطان؟
-أولست أمين؟!
-بلى!
-ماذا تعلم الأطفال إذن؟ أيًا كان، هذه اللوحة تدعى ”مسيرة المجوس الثلاثة“.
حاول بكر أن يتدارك خطأه ويعرب عن معرفته بحكايتها إلا أن يد السلطان قد منعته، أكمل السلطان بطرس:
-هؤلاء المجوس هم ثلاثة ملوك قد أتوا من أرض حيث مشرق الشمس، قد هداهم نجم ساطع من السماء إلى أرض ميلاد المسيح، فاستقبلهم أهل الأرض من مزارعين ورعاة غنم واختلطوا بهم حتى سجد المجوس بين يدي الرضيع في مهده، وسجد معهم الرعاة والمزارعين. أنظر كيف تتطلع إليه نواظرهم؟، أنظر كيف يهابونه وهو ابن الشهور؟، أهم رجال جبناء أم هو نور على الأرض تتبعه قلوبهم وهي وجلة طائعة؟، ماذا تملك هذه اليدين الصغيرتين لهؤلاء الرجال ليسجدوا له كما فعلوا؟ هل تبتذهم أمه؟ هل له روح شريرة تقتنص أجسادهم في أواخر الليل؟ لطالما كنت أجلس بالساعات في الأسابيع الأخيرة ليس لي في وقتي شيئًا لأفعله إلا النظر والحملقة في هذه اللوحة أتسائل لما تحطمت جباه هؤلاء الملوك في حضرة تلك الطفولة النقية؟

ظل بكر مطرقًا بينما أنهى السلطان زجاجة النبيذ كلها وهو يسهب في حديثه، نظر إلى السلطان و عينه تغشاها الثمالة والكلل ثم قال: ربما لأنه هو مليكهم حامل البشارة والمُلك لهم، أظن أن هذا هو السبب.

- لا يابكر ، فالمُلك ليس المسألة، إنما هي في هذا الشئ الكامن في قلوب الخلق ترنو إلى معبود واحد، إلى شخص بعينه، يلهمهم القدسية والعلاء، فأمام عينيك هذا الرضيع يحيطه الرعاة وتركع تحت قدميه الرخوتين الملوك، يأتون له من أباعد الأرض ومن مقاربها، ليسجدوا تحت قدميه إعلاءً لقدسيته وشأنه، فالمسألة ليست الملك، ولكنها هي نواظر البشر تحيطك وتقع عليك أينما وطأت قدمك، تروح إليك القلوب وتشتاق إليك المهج، المُلك لا يَلْد الحب، المُلك يَلْد الرهبة، يَلْد الفزع والإفك والنفاق لا الحب، الحب يتمخضه التقاءُ الأرواح وسقوطُ التكلف، الحب ينتجه الإيمان والثقة، افتدائك صاحبك بروحك ليقيم دنياه هذا هو الحب، الإركان إلى أنه سيأتي قبل موعده المحدد هذا هو الحب، قدومه لك وإنفاذه لعهده هذا هو عين الحب، الحب لا يولد في نفوس الأشقياء الأفاكين، إنه يولد في قلوب مثل قلبك وصاحبك.
-وماذا إن لم يأت صاحبي لأي سبب، هل سيكون بعدها خائن؟ هل سيفقد بعدها طهر حبه؟
-كلا، بل سيأتي.

النهاية

قبل مهلة الشهر بيوم واحد وجد أحد الحراس المقيمون في ساحة العُقاب سمعان وقد انزوى في أسماله البالية بأحد زوايا الساحة، وقد أرسل الخبر إلى مسمع السلطان، استقبل السلطان الخبر ثم أمر قائد حرس القصر بأن يجهز ساحة العقاب ويدعو البشر للحضور ويجلب بكر الأعمش من المهذبة.
اختلجت مشاعر بكر بين التهلل والكآبة، فصديق عمره حي معافى ولكنه قادم إلى موت مدقع. يجتمع الصديقان بين يدي الملك والخلق من حولهم مشدوهين لهول المنظر، صديقان قد سُمِح لأحدهما بالفرار واستبداله بصاحبه، لماذا لم يهرب الأول؟ لماذا عاد؟ هذه هي السذاجة بعينها.

تنطلق الأبواق ومن بعدها يبدأ السلطان بطرس حديثه: ”نبدأ باسم السلطنة ومليكها وسلطانها بطرس حارس النهر، لقد اجتمعنا اليوم إعلانًا أن سمعان المحكوم عليه بالإعدام قد حضر إلى ساحة العُقاب، مُسلِّمًا روحه بأيدينا وقد ظل العُقاب ينتظرها لمدة شهر كامل، أعاده عهدٌ قد قطعه هنا لصديقه وكان عليه أن يوفيه، سيظل عُقاب هذه الساحة شاهدًا على ما جناه سمعان من ذنب ووفاء ومافعله بكر الأعمش من إخلاص وحب، يفني كل منا حياته على أمل إيجاد مثل هذه المحبة الخالصة النقية ذكية الخلاق، وربما لا يجدها المرء في أي من أوقات حياته، ولكن حالما وجدها يتحول كل شئ، وهذا ماحدث اليوم.
ولهذا وجزاءً للصديقين لما ضرباه لنا من مثل في الحب والإخلاص، قررنا النزول عن حكمنا الصادر في حق سمعان وإطلاق سراحه، ولقد عفونا عنه عما بدر منه إلينا، فهو وصديقه ليسا أكثر منّا فضلًا ولا أعز منّا مرؤة، لقد انتهينا إلى هذا الحكم وهو نافذ ففكوا أصفادهم أيها الحراس. و لتُقام الإحتفالات في القصر وفي الأزقة والشوارع على شرف إخلاص الصديقين. 

ولكن العُقاب قد وُعِد حَقَه فله ما وُعِد به.

تعليقات

المشاركات الشائعة